في شباط العام 1985 كان الاستفتاء على فترةٍ رئاسيةٍ ثالثةٍ من سبع سنواتٍ لمؤسّس النظام حافظ الأسد. بدأ جنون "العرس الديموقراطيّ" في سجن حلب المركزيّ قبل أكثر من أسبوعٍ من موعد الاستفتاء. كنا نسمع، من مهاجعنا في جناح الأمن السياسيّ، أصوات الطبول وهتافات جماهير المساجين بحياة القائد وفدائه بالروح والدم.
ما كان للشرطيّ جاسم (أبو جمعة) أن يحرمنا من بهجة تلك الاحتفالات الوطنية، ففتح باب الجناح، في أحد الأيام، لمسيرةٍ عفويةٍ تحرّكت في جناحنا من أوّله إلى آخره. كان أبو جمعة يمشي إلى جانب المسيرة ضاحكاً مبتهجاً يدعو السجناء السياسيين داخل المهاجع إلى المشاركة في الهتافات والتصفيق، لكن أحداً لم يتجاوب معه بطبيعة الحال. ربما هذا "الكُمّ" الذي أكله هو الذي دفعه إلى الخطوة التالية: إحضار صندوقٍ انتخابيٍّ إلى الجناح.
ولكن لا مفرّ، قبل الحديث عن يوم الاستفتاء، من وصفٍ موجزٍ لمكوّنات المسيرة. لم يتجاوز عدد "المسيَّرين" (عفوياً) نحو 15 ولداً معظمهم من جناح الأحداث، في ثيابٍ رثةٍ وهيئاتٍ وسخة، يقودهم سجينٌ أكبر منهم، كنيته "بظّت"، راكباً فوق كتفي ولدٍ آخر، يهتف بحماسةٍ شديدةٍ "بالروح بالدم".
كان لـ"تجديد البيعة" في تلك السنة أهميةٌ سياسيةٌ خاصةٌ لأنه جاء بعد حدثين مهمين كرّسا الدولة البوليسية والأبدية الأسدية: فمن جهةٍ أولى، كان النظام قد خرج من صراعه مع تمرّد الإخوان المسلمين منتصراً عليهم وعلى جميع السوريين بالمعيّة؛ ومن جهةٍ ثانية، كان قد قضى على تمرّد أخيه رفعت الأسد وطرده خارج البلاد، ومعه كلّ مراكز القوّة داخل النظام (الجنرالات الذين واجهوا رفعت). فجاء استفتاء 1985 تكريساً للانتصارين، وتأسيساً للأبد الفاشيّ الذي حوّل سوريا إلى مقبرةٍ صامتة.
في صباح الاستفتاء أمر الشرطيّ المناوب أبو أحمد سجناء الجناح بالاصطفاف أمام باب غرفة المفرزة في طابورٍ أحاديّ. وبدأ من أوّل الطابور، فطلب من كلّ واحدٍ الدخول إلى المفرزة والاستفتاء في الصندوق. كان يهمس لكلّ سجينٍ بدوره بما يلي: "ستدخل الآن إلى غرفة المفرزة وتمارس حقك الانتخابيّ"، وإذ يأتيه الجواب بالتخلي طوعاً عن هذا الحقّ يقول للسجين: "يمكن لتصويتك أن يؤثر على مصيرك في السجن" (وكانت الشرطة قد أشاعت، في الأيام السابقة، أن الرئيس سيصدر عفواً عاماً يشمل الجميع).
كانت النتيجة أن غالبيةً ساحقةً من المعتقلين السياسيين في الجناح رفضت الإدلاء بصوتها، مقابل مشاركة عددٍ صغيرٍ منهم دخلوا الغرفة.
بعد انتهاء عملية التصويت، عاد أبو أحمد ومعه عصاً راح يضرب بها السجناء ضرباً عشوائياً، إلى أن روى غليله. ثم فرز أولئك الذين شاركوا في التصويت في مهجعٍ خصّهم به، وعاد البقية إلى مهاجعهم. وسحب أبو أحمد كلّ "أدوات الرفاهية" من المغضوب عليهم كالكؤوس الزجاجية والكتب، وحرمنا من التنفس. ووقعت، أثناء تلك المعمعة، محاولة انتحارٍ من أحد المعتقلين، ربما لعبت دوراً في عدم حدوث مزيدٍ من التصعيد القمعيّ.
ما وصلنا، في الأيام والأسابيع التالية، من كواليس المفرزة والفرع هو أن فكرة استفتاء معتقلي الجناح كانت بمبادرةٍ من أبي جمعة. لكنه كان قد ورّط زميله الغبيّ أبو أحمد في فم المدفع. وإذ جاءت النتيجة مخيبةً ومخزية، فقد تلقى الشرطيان نصيبهما من التوبيخ.
أما السجين بظّت الذي كان يقود المسيرات العفوية فوق أكتاف رفاقه، فقد خرج من السجن فعلاً بعد بضعة أشهر، بفضل عفوٍ رئاسيٍّ عن بعض الجرائم أصدره الدكتاتور بعد تجديد البيعة.
كانت تصل إلينا، من حينٍ لآخر، أعدادٌ من جرائد تشرين والبعث والثورة. تشاء الأقدار أن يقع بين أيدينا عددٌ من إحدى تلك الجرائد، قرأنا فيه خبر تنفيذ حكم الإعدام ببظّت. وفي التفاصيل أنه التحق، بعد خروجه من السجن مباشرةً، بعصابة سطوٍ مسلحٍ قامت بعدّة عمليات سطوٍ مع قتل. وسرعان ما ألقي القبض عليه مع رفاقه وصدر بحقهم حكم الإعدام الذي تمّ تنفيذه بلا تأخير.