لم يتعرّض تنظيم "الدولة الإسلامية"، منذ تمدّده الأخير في سوريا، لتهديدٍ جادٍّ يختبر قدرته على الصمود، ويكشف مدى تماسك بنيته البشرية، وإخلاص المنتسبين إليه في الظروف الشاقة، وخاصةً الجدد منهم، ممن "بايعوا" خلال العام الفائت، والذين يشكّلون أغلبيةً عدديةً اليوم، بالمقارنة مع عدد المنتسبين إليه قبل عامٍ، عندما اندلعت الحرب بينه وبين الفصائل والتشكيلات الأخرى، والتي انتهت باحتلاله لمساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي السورية. ولا يمكن اعتبار هجمات طائرات التحالف تهديداً وجودياً، بسبب محدودية آثار هذه الضربات غير المتزامنة مع عملياتٍ واسعةٍ على الأرض.
قبل عامٍ، لم تكن أعداد مقاتلي التنظيم الفعّالين في سوريا وحدها، تتجاوز الألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل، بحسب تقديراتٍ محليةٍ دقيقة. يضاف إليهم ما عرف في حينه بالخلايا النائمة، وهي تسميةٌ فضفاضةٌ لمجموعاتٍ صغيرةٍ من المقاتلين (10 إلى 15) بايعوا سرّاً وكُلفوا بمهماتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ في قراهم وبلداتهم التي لم يغادروها، بانتظار وقوعها تحت سلطة التنظيم. وكانوا معروفين، أو مشتبهاً فيهم بالانتماء إلى "الدولة"، في أوساطهم المحلية. وصمدوا بالفعل أمام ملاحقات الجيش الحرّ وجبهة النصرة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2014. وكانت لهم أدوارٌ بارزةٌ في إخضاع بلداتهم بشكلٍ متسلسلٍ لسيطرة التنظيم في الأماكن التي استطاع التمدّد إليها، ولا سيما في محافظة دير الزور.
وبالنظر إلى التطور العدديّ والنوعّي الذي طرأ على بنية "الدولة الإسلامية"، بعد بسط سلطتها في الجغرافيا الحالية، يمكن تصنيف المنتسبين إليها في ثلاث فئاتٍ هي: المؤمنون والحمقى والمرتزقة.
المؤمنون بـ"الدولة الإسلامية"
هم العناصر المتدينون بالفعل، ممن دفع بهم الاعتقاد بأن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" –بعد الإعلان عنها في ربيع العام 2013- على صواب، وبأن لها وحدها الحق الشرعيّ بقيادة المسلمين وتولي شأنهم، وعليها واجب سحق "المرتدّين" بأنواعهم المختلفة. والمرتدّ هو كلّ مسلمٍ سنّيٍّ –غيرُ السنّة كفارٌ بحسب التنظيم- ناصب "الدولة الإسلامية" العداء، أو اختلف معها في قضيةٍ من القضايا الرئيسية أو الفرعية في العقيدة. وهو أيضاً كلّ من تقتضي مصلحة التنظيم اللحظية أو الدائمة أن يوصم بالردّة تسويغاً لهدر دمه.
وإلى فئة "المؤمنين" ينتمي القسم الأكبر من المهاجرين، مع تمايزاتٍ لافتةٍ بينهم في الدوافع والسلوك ودرجة النضج والحياة السابقة. فيما ينفرد العراقيون بتصنيفٍ مميّزٍ وخاصٍّ في "الدولة"، يمكن الحديث عنه لاحقاً. وينظر المؤمنون المهاجرون إلى تجربة "الدولة" باعتبارها لحظةً تاريخيةً قياميةً ستتسع لتشمل العالم كله، وتعيد للمسلمين مجدهم الضائع . وتصعب معرفة مدى اندماج هؤلاء –كلٍّ في بلده- بمجتمعاتهم الأصلية، ومدى انتمائهم إليها. ويصعب كذلك تصديق دعاويهم المتكرّرة بأنهم جميعاً تركوا حياةً رخيّةً في بلدانهم، لتلبية نداء الله. فقد تكون "الدولة" فرصةً لنزوعات التطهّر والخلاص، وقد تكون كذلك وسيلةً لكسر إيقاع الحياة التي تفتقد إلى "الروح" أو إلى المغامرة. وتثير بعض المعطيات في سلوك المهاجرين وصِفاتهم أسئلةً متنوّعةً تنوّع بلدانهم وثقافاتها. فالخليجيون هم الأكثر لطفاً مع عامة الناس. ويتفوّق الشيشانيون والأوزبك والطاجيكيون في الدموية والتطرّف، ولا سيما في المعارك. فيما يماثلهم التوانسة، وآخرون من المغرب العربيّ، في التطرّف والحدّة عند التعامل مع الناس على الحواجز أو كعناصر حسبة. ويميل الأوربيون، رغم دماثة أخلاقهم، إلى العزلة وتجنب الاحتكاك بسكان المناطق التي يقيمون فيها.
وإلى جانب فئة المؤمنين بالدولة من المهاجرين، يأتي أشدّ الجهاديين السوريين جنوناً وقسوة، وخاصةً ممن كان له تاريخٌ جهاديٌّ سابقٌ للثورة (بدأ في معظم الحالات في انطلاقتين؛ 11 أيلول، والاحتلال الأمريكيّ للعراق) سواءً أكان هذا التاريخ مجرّد فكرٍ ومشاعر ساكنةٍ في الأنفس والعقول، أم كان سلوكاً حركياً تراوح عادةً بين سياحات قتاليةٍ في العراق واعتقالٍ لأشهرٍ أو لسنواتٍ في سجون الأسد، التي زادت بدورها من قطيعة هؤلاء واغترابهم عن المجتمع السوريّ –السنّيّ- الغارق وقتذاك في "لهوه وردّته". مجتمعٌ فاجأهم حقاً بانتفاضته على نظام الأسد. وأربك حساباتهم، مؤقتاً، بطرحه لوسائل أخرى كادت تنجح لمقارعة الطغيان. وطرحه كذلك لقيمٍ ومبادئ أوسع مما ألفوه في السياسة والأخلاق، كادت تتحقق هي الأخرى، قبل أن ينفض جهاديو صيدنايا و"الجوّية" و"المخابرات العسكرية" وغيرهم ما خالط أنفسهم من إعجابٍ يسيرٍ بآخرين ليسوا منهم، وخاصةً بعد انحسار موجة النبل المؤقتة في سلوك الثوّار في الأشهر الأولى للثورة. ليحزم الجهاديون السوريون الشبان، أو بعضهم، أمرهم مع جبهة النصرة لأهل الشام في الأرياف المنتفضة في شرق البلاد وشمالها وجنوبها. ورغم جنونهم، يبدو الجهاديون السوريون أقلّ اهتماماً من أقرانهم المهاجرين بالجانب الرومانتيكي من التجربة. فالمهمّ عندهم أن يتمسّكوا بجهادهم، وأن لا تفتر هممهم في الانصياع لواجبات التكليف.
كما تضمّ فئة المؤمنين بـ"الدولة" نوعاً ثانياً من السوريين، هم بعض الثوّار من مقاتلين ومدنيين، ممن ضاقوا ذرعاً بتشتّت الجيش الحرّ في تشكيلاتٍ متنافسةٍ وضعيفة، تعجز عن بناء جبهةٍ قويةٍ ومتماسكةٍ في وجه قوّات الأسد، وتعجز كذلك عن وضع حدٍّ للفساد والسرقة والفوضى في المناطق المحرّرة. ووقع هؤلاء تحت تأثير الدعاية التي برع "التنظيم" في ترويجها عن نفسه، من أنه الوسيلة الناجحة لمكافحة الفساد وهزيمة الأسد. وتعمّق انتماؤهم إلى الدرجة التي أقدم فيها بعضهم على تنفيذ عملياتٍ استشهاديةٍ/ انتحاريةٍ اختصّ بها المهاجرون العرب عادةً. وشكّل أفراد هذا النوع وقوداً لمعارك "الدولة" مع النظام، وفق ما تكشف قوائم الشهداء على جبهات القتال، وخاصةً في محافظة دير الزور.
الحمقى
طائفة الحمقى في التنظيم أقلّ من يؤذي مجتمعه، وأكثر من ينشط في الدعاية العفوية لهذه "الدولة". يستغرب الحمقى لماذا لا ينضمّ الثوّار المحترمون جميعاً إلى هذا "الكيان الرائع"، حيث يمزق الألمانيّ جواز سفره بمجرد الوصول، ويقتحم خمسون شيشانياً جبهةً أسديةً كاملة، ويطير الصينيون حفاةً خلف صفوف العدوّ. وحيث يُجلب اللصوص والمفسدون إلى منصّة الاعدام، وتتهاوى قوّات الأسد أمام جيش الصادقين. فالإعجاب بـ"بطولات الدولة الإسلامية" وبنقاء مقاتليها –خاصةً المهاجرين- وحده من جلب مجموعات الحمقى. وكثيرٌ منهم كان ثائراً عادياً يريد الخلاص من نظام الأسد والعودة إلى حياته السابقة. وكثيرٌ منهم أيضاً لم يكن على قناعةٍ بأن "الثورة لن تنجح إلا بتطبيق شرع الله وإعلاء كلمته"، على الطريقة الجهادية لهذا التطبيق. والواقع أن الحمقى كانوا جمهوراً متعاطفاً مع الحركات المسلحة ذات الطابع الجهاديّ، أو أنصاراً ومنتمين إليها بعد أن تراجعت سمعة الجيش الحرّ وتقلصت كفاءته القتالية، قبل أن يخضعوا للمفاضلة بين "الدولة" وسواها بحكم الأمر الواقع، وتحت تأثير الهالة الدرامية التي رافقت صعودها في العام الفائت.
وتكمن صفة الحمق لدى هؤلاء في سهولة خداعهم، وبكونهم مأخوذين دوماً بفصيلٍ ما، مبرّرين ثابتين، وعن قناعةٍ، لأخطائه. ويُعثر على الحمقى اليوم بين المقاتلين والعناصر المدنيين في المواقع التنفيذية في صفوف التنظيم، إذ يندر أن يتبوّأ أيٌّ منهم منصباً ذا قيمة.
المرتزقة
وهم المنتسبون إلى التنظيم لأسبابٍ مصلحيةٍ خاصّة، بشخوصهم أو عائلاتهم أو جماعاتهم، لحماية مكتسباتٍ سابقةٍ أو لتحقيق مكتسباتٍ محتملة، وخاصةً ممن دخلوا في منافساتٍ مع خصومٍ محليين على "خيرات" الممتلكات العامة وخرجوا خاليي الوفاض من هذه المنافسات. وقد كان التناحر والكيدية من الأسباب الهامة للوقوف إلى جانب التنظيم، والفشل في بناء موقفٍ عسكريٍّ ومدنيٍّ موحّدٍ ضدّه في دير الزور. وبين "المرتزقة" أفرادٌ وجدوا في الانضمام إلى "الدولة" فرصة عملٍ تمنح مرتباتٍ شهريةً ثابتةً ومجزيةً في ظروفٍ معيشيةٍ قاسيةٍ يصعب فيها العثور على عمل. كما يمكن ضمّ محبّي التقرّب إلى السلطات الحاكمة، للظهور بمظهر ذوي القوّة والنفوذ، إلى هذه الفئة. وقد كان قبول التنظيم لكلّ من "يتوب" من المتهمين بتهمٍ عامةٍ، قبل القبض عليه، سبباً لانضمام مخبرين سابقين لأجهزة أمن النظام، ولصوصٍ مشهورين "قاموا بتسوية أوضاعهم"، إلى صفوفه. ويميل المرتزقة إلى العمل في الأنشطة المدنية والأمنية دون القتالية. ويمكن للـبارعين منهم أن يصلوا إلى مراتب معقولة.
حتماً، لن يصمد المرتزقة في أوقات الشدّة والمحن، إذ سرعان ما سينقلبون على صيغتهم الحالية. فيما سيقع الحمقى في حيرةٍ مستدامةٍ بانتظار ما ستسفر عنه الأمور، قبل أن يستأنفوا أنشطتهم العامة في أطرٍ جديدة. وسيواصل المؤمنون رسالتهم، وتحت عنوانٍ متجدّدٍ بأن الحرب جولاتٌ، لك وعليك.