بيداء الحسن | دير الزور
ثلاث نســــاءٍ من سـوريــا الحــرّة
رئيسةُ مجلس ٍمحليّ، ومدرّسة، وخيّــاطة
هنادي عبد الوهاب | بلال دوماني | أحمد الصالح
للصورة وجهان، فكما كانت المرأة أكثر من ضحّى وتضرّر خلال هذه الثورة، كانت أيضاً سبّاقةً وفاعلةً ومؤثّرة
حميدة الناشد... امرأة من حلب
الذهاب إلى حيّ العامرية للقاء رئيسة المجلس المحلي الجديدة أمرٌ ينطوي على مغامرة، فنيران القنّاصة تكشف الكثير من الشوارع هناك، وكذلك محاولات البعض إفشال اللقاء، غير أن "عين المدينة" تمكّنت في النهاية من الوصول إلى هذه المرأة الشجاعة.
لحميدة الناشد (35 عاماً) قصةٌ مع الثورة التي شاركت فيها منذ البداية، فهي تكره هذا النظام الظالم منذ زمنٍ بعيد، وجاءت الثورة لتمنحها فرصة المساهمة في القضاء عليه، فعملت أولاً في الحراك الثوري، ثم بإغاثة العائلات النازحة. وبعد دخول الجيش الحرّ إلى المدينة، دخلت حياتها العائلية في لحظة مفصلية، حين تأثرت علاقتها بزوجها بسبب نشاطها الكبير، فخيّرها بين خيارين مؤلمين؛ إما أن تترك الثورة وتبقى مع أطفالها أو أن تغادر إلى ما تريد ولا ترى أطفالها بعد ذلك، فكان الانفصال لينتهي زواجٌ عمره 12 عام، لتلبّي هذه الأم لستة أطفال نداء الواجب، فهناك في الأحياء المحرّرة أطفالٌ آخرون كثرٌ حفاةٌ وعراةٌ وجائعون.
تتذكر حميدة الأيام الأولى لها في حيّ العامرية، كيف بدأت العمل الإغاثي وحدها، وأحصت 120 طفلاً بحاجةٍ إلى الحليب، لتقنع إحدى الجهات الداعمة بتأمينه، ولتشكّل فريق عملٍ استطاعت معه، وبمساعدة منظماتٍ إغاثيّة، تأمين حصص خبزٍ يوميّةٍ لعشرات الأسر.
ومن جانبٍ آخر افتتحت حميدة مدرسةً ابتدائية، بمساعدة طالبٍ جامعي وشابٍّ في الصف العاشر. ومعهما جلبت، من مدرسةٍ تقع في موقعٍ خطرٍ تحت نيران النظام، وعبر فتحات الجدران أو "الطلاقيات"، كتباً ودفاتر وبعض المستلزمات التي يمكن نقلها.
وتشعر حميدة بالسعادة اليوم، كما تقول، لرؤية 250 طفلاً يذهبون إلى المدرسة، بعد أن كانوا يتسكعون في الشوارع. ولكن هناك 14 معلمة، تشير حميدة إلى ضرورة أن تؤمّن لهنّ رواتب شهرية. فالمساعدات التي يقدّمها مجلس المدينة المحلي ومنظمات الإغاثة غير كافية، وهناك نقصٌ كبيرٌ جداً في دعم العملية التعليمية. وعبر موضوع النقص والاحتياج المالي تنتقل حميدة إلى الحديث عن النقطة الطبية التي افتتحتها، مع ممرّضاتٍ متطوّعات، لتقديم بعض الرعاية الصحية للسكان، لكن أحداً لا يساعد هذه النقطة إلا نادراً. فهناك نقصٌ كبير جداً في الدواء، وهناك أمراضٌ كثيرة.
تعمل حميدة على تأسيس اتحاد المرأة السورية، ليضمّ ناشطاتٍ من كافة المناطق. وتعمل كذلك على مشروعٍ آخر باسم "مشروع التنمية الاقتصادية للأسرة السورية". وتفكر حميدة، التي يناديها معظم السكان "الحجّة"، بالكثير من المشاريع والأنشطة، مثل الدورات التعليمية، والسوق الخيري، وتقديم المســـــــرحيات الثقافية ومسرح الأطفال، وتبحث عن جهاتٍ تشتري ما تصنع النساء من أعمالٍ يدوية.
تزوجت حميدة من أحد الثوّار في حي العامرية. وهو زوجٌ متفهّمٌ يشجّعها دوماً ويقف إلى جانبها في وجه المصاعب الكبيرة في عملها، إذ تشكو من سلوك بعض الأشخاص الذين لا يكفّون عن خلق المتاعب لها، وخاصةً بعد الانتخابات الأخيرة لمجلس حيّ العامرية المحلي، والتي حققت فيها حميدة نتائج باهرة، إذ فازت بثلاثة أرباع أصوات الناخبين،
في عمليةٍ ديمقراطيةٍ حاول البعض التشويش عليها باستقدام مسلحين وبث شائعاتٍ وأخبارٍ كاذبة، غير أن محبة الأهالي واحترامهم لحميدة لم يتركا لهؤلاء فرصةً لتغيير نتائج الانتخابات. والحجّة، التي وثق السكان بها، تقود اليوم مجلس العامرية المحليّ، على الأرض وبين الناس.
بيداء الحسن
كانت بيداء الحسن واحدةً من أوائل النساء اللاتي انخرطن في الثورة في دير الزور، ونشطت في مجالاتٍ عدّة؛ من التظاهر السلمي إلى الإغاثة إلى التعليم. فقد كانت تخرج قوائم وبيانات المحتاجين مروراً عبر حواجز النظام وتعود منها أيام الحصار وأيام محاولات الحرس الجمهوري اقتحام المدينة. وكذلك أسهمت بيداء بافتتاح أول مدرسةٍ في صيف السنة الماضية، وكانت تزور البيوت لإقناع الأهالي بإرسال أولادهم إلى المدرسة. وبعد كسر الحصار على المدينة، بتحرير جسر السياسيّة، شاركت بيداء بتأسيس حركة نشطاء، وقامت بأنشطةٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ عدّة.
تقول بيداء: تابعتُ تجارب الحركات النسائية في مختلف المناطق السورية، وحاولتُ معرفة كل تفاصيل عملها،
وبحثتُ مع شريكاتي وصديقاتي من معلمات المدرسة، وغيرهن في الأنشطة الأخرى، كيفية تطوير عملنا في دير الزور، وتوحيد الجهود والإمكانات في إطارٍ واحد، وتوصلنا إلى تأسيس منظمة حياة، التي تعنى بشؤون المرأة والطفل، وتحاول استثمار الحماس الكبير والرغبة بالعمل العام لدى الكثير من النساء.
قامت منظمة حياة بافتتاح مدرستين في حيّ الحميدية، ضمن خطّةٍ ستغطّي جميع أحياء المدينة المحرّرة، ونظّمت ـ بالتعاون مع فريقٍ طبيٍّ متخصص ـ دورةً تدريبيّةً للسكان للوقاية من آثار القصف بالأسلحة الكيماوية. وكذلك تهتم هذه المنظمة بالتدريب المهني للنساء، كتعليم الخياطة وقص الشعر، وغير ذلك من الأعمال التي تناسب المرأة.
وكجميع الناشطات تشكو بيداء من قلة الدعم لمنظمتها، مما يشكّل عائقاً كبيراً في عملها. فالمدرسة، على سبيل المثال، تحتاج إلى الكتب والدفاتر، ومشغل الخياطة التابع للمنظمة، والذي يقدّم خدماته للأهالي بالمجان، يحتاج إلى الدعم المالي كذلك.
تلقى هذه المرأة تشجيعاً كبيراً من عائلتها، وهي الأم لأربعة أطفال، رغم أن معظم وقتها يذهب للعمل العام. ومع شريكاتها حققت بيداء نجاحاتٍ عدّة، وتركت آثاراً هامة في مجتمعها المحلي، وما زال لديها الكثير من الأهداف، التي تتمنى أن تتحقق في يوم ما.
أم عبـد الله، تفاصيـل حياتهـا... تفاصيل ثورة
سيدةٌ في الخمسين من عمرها، تحمل من العنفوان الكثير الكثير، روت لـ"عين المدينة" بعضاً من تفاصيل حياتها خلال الثورة، تلك التفاصيل التي جعلتها جديرةً بحمل لقب "أم الثوار":
حين بدأت الثورة في درعا كان حلم إيقاد شرارتها في "الميادين" يراود كل حرّ، إلا أن "القوريّة" ظفرت بذاك الشرف قبل غيرها في محيط الميادين، فراح قسمٌ من أبنائنا ينتقلون إليها كلّ يوم جمعةٍ للاحتفاء بذاك المولود الجميل "الثورة". وهنا كانت أول مساهمةٍ لي، حين طلب مني أبنائي وأصدقاؤهم خياطة علم الثورة فصنعت لهم علماً من 13 متراً، ليلفّه أحدهم على جسده ويغادر به إلى "القوريّة". وحين عادوا سارعوا إلى منزلي لرفع الفيديوهات. كانوا حوالي 30 شاباً بين أقارب وأصدقاء، تمكنوا في النهاية ـ بمساعدة مجموعات أخرى ـ من نقل التظاهرات إلى الميادين. وهنا صاروا يطلبون مني أعلاماً أصغر حجماً وأكثر عدداً.
وعملــــتُ أيضـــاً على خياطـــــة الأعــــــــلام الكبيرة لتعلق في الكليّات في مدينة دير الزور، مثل العلم الذي علق في كليّة الطب. ثم صار عليّ أن أخيط عدداً كبيراً جداً من الأقنــــــعة للشــــــبان، والجعب للمقاتلين. وهنا قررنا إخفاء كلّ ما يتعلق بالثورة، من قماشٍ ولوازم أخرى، في بستانٍ قريبٍ منا طوال الأسبوع، حتى يأتي يوم الخياطة ونجتمع لنقتسم العمل. كان هاجس الاقتحام يرافقنا. وكنت أخشى على أولادي وأصدقائهم أكثر من خوفي على نفسي. وأكثر ما عشت الخوف كانت أيام ملاحقة ابني "أبو الحمزة". كانت أياماً تشبه الكابوس. كما كان الخوف يصاحبنا كثيراً أيام سعينا لإغاثة النازحين من حمص، إذ كان النظام يلاحق كل من يحاول مساعدتهم.
وعن نشـــــاطها أثنـــاء تحريــــر الميادين حدثتنا: تحوّل بيتي هذا خلال عملية التحرير من مركز إعلاميٍّ إلى مشفىً ميدانيٍّ يعالج فيه جرحى قصف النظام، بالإضافة إلى مطبخ للثورة. فبحكم موقعه كان بإمكاني تأمين الغذاء للعديد من المقاتلين وفق امكاناتي المادية، مما جعله نقطةً مستهدفةً وعرّضه لعددٍ كبيرٍ من القذائف التي بقيت آثارها على الجدران.