فاروق الكومي
كان مفاجئاً لأهل تدمر انتقالهم السريع بين سلطتين، من نظام الأسد إلى تنظيم داعش. من الصعب أن يكشف التدمريون عن رأيهم الحقيقيّ في من يحكمهم، لكن بعضهم يشذّ عن هذه القاعدة ويغضب و"يلعن الجوز". كما هو الحال مع صاحب دكان البقالة الذي طلب أن نسمّيه "أبو مراد"، الذي وصف سيطرة داعش على المدينة بـ"المؤامرة"، ففي لحظةٍ واحدةٍ اختفى جيش الأسد وشبيحته وكأنهم "ملح وذاب". بخلاف دكاكين أخرى ممتلئةٍ بالبضائع للمستهلكين الجدد من عناصر داعش، كان دكان أبو مراد شبه فارغٍ إلا من بعض المعلبات وأكياس سكّرٍ وأرزٍّ توشك على النفاد. إذ لم يعد الرجل يجد رغبةً في العمل كما في السابق. وهو يفكر في النزوح، رغم عمره الذي قارب الستين، مع هجمات الطيران اليومية التي تثير استغرابه وهو يحرّك كرسيّه تحت ظلّ الحائط جوار الدكان. يتساءل يوسف، وهو مؤمنٌ آخر بنظرية المؤامرة: "وين كانت براميلو لبشار لما كانت داعش برات البلد؟". "ليطفّشو الناس ويخلّوها داشرة بهالبراري"؛ يلخّص يوسف حكاية نزوح سكان المدينة بسبب الغارات الجوية نحو قرىً وتجمعات بيوتٍ في قلب الصحراء، إضافةً إلى مدن دمشق وحمص والرقة، حسب النظرة التي يحملها النازح لكلٍّ من داعش والنظام. بعد سيطرتها على المدينة قامت داعش بأعمالٍ خدميةٍ وإغاثيةٍ، وحاولت طمأنة الناس، ووجدت بينهم من يعجب بها. وأصدر إعلاميوها تقارير مصوّرةً عن النخيل وينابيع المياه الكبريتية والحياة البرّية، إضافةً إلى حفلة الإعدام على المسرح الأثريّ. تقول فاطمة، وهي طالبةٌ جامعيةٌ، إن داعش أسوأ من النظام، فهي تقتل مثلما يقتل النظام، وتعذّب الناس كما يفعل. "ذبحو تلات ممرّضات وقاضي، وذبحو أم وبناتها الثنتين ببيتهو". و"عشان الحلال والحرام" تشرح فاطمة طريقة جرائم داعش مع الحيوانات في المحمية الطبيعية الصغيرة قرب تدمر: "يفلتو الغزال بهالبرية ويطاردوه ليصيدوه وياكلوه. قال حرام يقوّسوه وهو بالمحمية!". في السنة الأولى للثورة اندلعت المظاهرات في تدمر، وتعرّض أبناؤها للسجن والتعذيب والاعتقال. ثم شكّل بعض الثوار الأكثر إصراراً كتائب من الجيش الحرّ وخرجوا من المدينة إلى ريف حمص المحرّر. وعادت المدينة إلى عزلتها وحياتها الطبيعية تقريباً، خلا بعض هجمات الثوار المتقطعة على المراكز العسكرية في محيطها. الهدوء والاستقرار جعلا من تدمر قبلةً للنازحين من المدن السورية الملتهبة، ليتضاعف عدد السكان وتشهد المدينة حركة نموٍّ وازدهارٍ طارئٍ في سوق العقارات السكنية بيعاً واستئجاراً وبناءً. ومن جانبه خفّف النظام القيود على بعض الأعمال، فسمح للسكان باستخراج الملح من مياه الآبار بعد تبخيرها في مسطحاتٍ أو "مساكب" كما يقول التدمريون، وسمح بالزراعة البعلية على أطراف المدينة. لكن هذا لم يمحُ الذاكرة الناقمة لكثيرين على نظام الأسد وطغيان رؤساء فرع مخابرات البادية المتتابعين وعلى السجن الشهير، ذلك المسلخ الرهيب الذي يخشى الناس حتى النظر باتجاهه. "ما كنا نستجري نعمل شي"، يقول رجلٌ متوسط العمر طُرد من وظيفته الحكومية أوّل الثورة. "كل شي ممنوع، حتى أنك تطلع تدوّر كمي بالبرية ممنوع. ولو مسموح ما كنّا عرفنا ندوّر، لأنه خايفين نتعلم". يضحك الرجل وهو يتذكر محاولاته الفاشلة "لتلقيط الرزق" مع السياح الذين لم يخففوا، رغم حضورهم الدائم، من عزلة المدينة وخشيتها. تقاطع الأم ابنها الأكبر وهي تتذكر شقيقه الجنديّ المنشقّ عن جيش بشار والهارب إلى تركيا: "صار لي تلات سنين ما شفتو. انشق من ادلب وهرب على تركيا". تأمل الأم أن يؤدي زوال سلطة النظام عن المدينة إلى عودة ابنها الهارب، وتدافع عن داعش لأنها عزّزت هذا الأمل، ولا تأبه لانقطاع الكهرباء والقصف بالبراميل وإكراه الناس على نمطٍ من الحياة والتحكّم في لباسهم وهيئاتهم. بعد شهرين من وقوع تدمر تحت سيطرة داعش، ما زال الناس منقسمين حول رواياتٍ متضاربةٍ عن معظم ما حدث ويحدث في المدينة التي تصطبغ، أسبوعاً وراء أسبوعٍ، بما تريده داعش لهم.