فسادٌ ورشاوى وابتزازٌ وقراراتٌ مضطربةٌ تدفع أصحاب الثروات إلى إظهار الولاء
تحوّلت الرقة إلى مركزٍ اقتصاديٍّ أوّل في الأجزاء التي يحتلها تنظيم "داعش" من سوريا، ولا يعلوها أهميةً ضمن أراضي التنظيم سوى مدينة الموصل، حسب ما يؤكد تجارٌ يعملون بين سوريا والعراق.
وقد حصل هذا بتأثير عوامل مختلفةٍ يمكن تحديدها بما يلي:
- الموقع الجغرافيّ للرقة، المتميّز بقربه النسبيّ من ممرّات البضائع والسلع في البوّابات الحدودية مع تركيا ومن مدينة حماة التي تتوسّط الطرق إلى مينائي اللاذقية وطرطوس.
- انتقال جزءٍ من التجار والصناعيين من بعض مدن محافظة حلب إلى الرقة بعد توقف أعمالهم بسبب الحرب التي تشهدها مناطقهم، ابتداءً من صيف 2012 وحتى نهاية العام الأول من سيطرة "داعش" على الرقة.
- ارتفاع عدد سكان الرقة بسبب موجات النزوح المتلاحقة إليها، قبل سيطرة "داعش"، من محافظات حلب ودير الزور وحمص، ثم من بعض المدن التي امتدّت إليها الحرب بعد السيطرة، مثل تدمر والسخنة والتجمعات الأخرى في بادية الشام. وفي المجمل ظلّ عدد القادمين إلى محافظة الرقة أكثر من عدد مغادريها في موجات النزوح العكسيّ، التي كانت أساساً من أبناء المحافظة.
فئات التجار
تعمل في الرقة اليوم ثلاث فئاتٍ من التجار حسب رؤوس الأموال المقدّرة لدى كلٍّ منهم؛ الأولى هي فئة الذين تتراوح رؤوس أموالهم بين (1-5) مليون دولار، ولا يتجاوز عددهم 20 تاجراً. وينتمي إلى هذه الفئة كبار تجار الجملة والعملات والذهب والمواد اللازمة للزراعة، إضافةً إلى الملاكين الكبار. والثانية هي فئة التجار الذين تتراوح رؤوس أموالهم بين (0.5-1) مليون دولار، ولا يتجاوز عددهم 100. ويصنّف ضمن هذه الفئة تجار الآلات الصغيرة وبعض الصرّافين وصاغة الذهب، وتجار الإطارات والخردة وقطع تبديل السيارات، إضافةً إلى ملاكي الأراضي والعقارات المتوسطين. وتضمّ الفئة الثالثة أصحاب رؤوس الأموال التي تتراوح بين (0.1-0.5) مليون دولار، وهم الأغلبية في المجتمع التجاريّ، ويقدّر عددهم بحوالي 1000 تاجر. ومنهم مالكو صهاريج نقل النفط ذات الحجم الكبير –وتجار النفط بطبيعة الحال- وتجار الخضار والفواكه بالجملة، وكبار بائعي الألبسة، إضافةً إلى كبار الحرفيين والصناع الذين افتتحوا مؤخراً ورشاتٍ ومصانع صغيرة، وتجار السيارات والأدوات الكهربائية.
قراراتٌ مضطربة
تفتقر المحاولات التي أقدمت عليها "داعش" لتنظيم العمل التجاريّ –والصناعيّ إن وجد- إلى الجدية والنضج والإحساس الواعي بالمسؤولية، وتتسم بالاضطراب والتناقض والجهل. ورغم التباهي في دعاية "داعش" بازدهار الأسواق ومكافحة الغش لم يظهر بين أجهزة التنظيم جهازٌ واضحٌ وواحدٌ يتولى شؤون "الاقتصاد" في "ولاية" الرقة كما في غيرها من "الولايات". إذ يتدخل في هذا الشأن معظم مسؤولي وأمراء التنظيم، من قضاةٍ وشرعيين وأمراء حسبةٍ وأمنيين وعسكريين، كلٌّ في قطاعه الجغرافيّ وحسب الدوافع ومقدار النفوذ. وصدرت، خلال عامين من سيطرة داعش على الرقة، قراراتٌ عدّةٌ لا ترقى أبداً إلى مستوى القانون، ولم تكن منسجمةً في ما بينها، مع خضوعها الدائم لخروقاتٍ وتعديلات، لتتشكل بيئة عملٍ غريبةٌ وشديدة التغيّر. ففي ملف الأراضي الزراعية المؤمّمة بقراراتٍ اشتراكيةٍ سابقةٍ لم تسلك "داعش" سلوكاً واحداً، إذ انتزعت بعض هذه الأراضي من مالكيها الحاليين وأعادتها إلى ملاكها الأصليين في بعض مناطق الرقة، وأبقتها في أيدي المستفيدين أو الملاك الحاليين لها في مناطق أخرى. وكذلك في موضوع القرارات الخاصّة بالمحلات التجارية المستثمرة بنظام (الفراغ) منذ وقتٍ طويل، إذ أُخرج بعض المستثمرين من بعض المحلات دون أيّ تعويض، محاباةً لبعض الملاك الذين كانوا قد تلقوا مبالغ طائلةً من المستثمرين وقت التأجير، ورُدّت دعاوى ملاكٍ آخرين محاباةً للمستثمرين. ولم يكن الحال أفضل في حقل الصناعات والحرف، فعلى سبيل المثال يمنع قادة "داعش" بعض الأشخاص من تقليد الماركات الشهيرة في بعض المناطق ويسمح به لأشخاصٍ آخرين في مناطق أخرى. وحصيلةً لهذا الواقع التجاريّ والصناعيّ الغريب والمضطرب والخطِر في آنٍ واحدٍ لم يجد أصحاب الثروات من تجارٍ وملاكٍ وصناعيين إلا خيارين؛ الرحيل وما يرافقه من خطر مصادرة "داعش" للثروات، أو البقاء والتكيّف مع معطيات هذا الواقع.
ما إن تمكنت "داعش" من فرض حضورها في الرقة حتى بدأت التحرّش ببعض التجار، فاعتقلت الشيخ أحمد عجان الحديد، وهو تاجرٌ كبيرٌ ومعروفٌ، بذريعة عقيدته الصوفية "الفاسدة"، واستولت على ممتلكاته المقدرة بـ(3) مليون دولارٍ حسب تجار، قبل أن تحرّره كتائب الجيش الحرّ التي اقتحمت سجون "داعش" أثناء المعارك المندلعة بين الطرفين.
منافع متبادلة
إن الشكل الوحيد الممكن للتكيّف هو الولاء للتنظيم أو تأييده ثم بناء شبكة علاقاتٍ ومنافع متبادلةٍ مع شخصياتٍ قياديةٍ فيه، اتقاءً للشرّ وحمايةً للنفس من الاعتقال وللثروة من المصادرة بالنسبة إلى بعض أصحاب الثروات، وطمعاً في الربح وتلقي معاملة تفضيليةٍ بالنسبة إلى البعض الآخر. وتعزّز صعوبة، وربما استحالة، نقل الثروة إلى خارج مناطق التنظيم من أسباب البقاء في هذه المناطق، وخاصّةً لملاك العقارات والأراضي، إذ يسارع التنظيم إلى مصادرة أملاك الغائبين أو المقيمين في مناطق "المرتدّين والكفار"، وهي كلّ ما يقع خارج سيطرة "داعش". عاملٌ آخر يجب تسجيله لتوضيح دوافع أصحاب الثروة في التكيّف مع "الدواعش" أو التقرّب منهم، هو تقاليد العمل الاقتصاديّ الموروثة من عهد نظام الأسد التي جعلت من الاتصال بالسلطة أمراً لا غنى عنه لتأمين السند في أوقات التعثر والخطر، ولتحقيق درجةٍ من الإحساس بالأمان في بيئةٍ تطلق فيها الاتهامات وتقطع الرؤوس لأتفه الأسباب.
وإلى جانب الجسم الأكبر من أصحاب الثروات المتكيّفين اضطراراً مع "داعش" ظهرت أقليةٌ، من جميع الشرائح المالية، تؤيد التنظيم بدوافع مبدئية. وجاء معظم هؤلاء من المدن الريفية في حلب. ويتفاوت أثر هذا المبدأ في سلوكهم العمليّ حسب الظروف ومهارة كلٍّ منهم وجرأته على المزيد من الانخراط تأييداً لـ"داعش" وتحقيقاً للنفوذ والحظوة فيها. وتتجسّد المكاسب العامة للتنظيم من هؤلاء في تقديمهم خدماتٍ ماليةً ووظيفيةً وتجاريةً لأجهزته المختلفة، فيكلف بعضهم بجلب بضائع ذات استخدامٍ مزدوجٍ في الحقلين المدنيّ والعسكريّ على سبيل المثال، أو بتسهيل تحويلاتٍ ونقل أموالٍ بين الداخل والخارج، أو بمهماتٍ أخرى يسهل على التجار تأديتها دوناً عن غيرهم. أما المكاسب الخاصّة فينالها الفاسدون من قادة "داعش"، وهم نسبةٌ ملحوظةٌ ومتزايدةٌ في الصفين الأول والثاني لقادة التنظيم في الرقة. وتأخذ هذه المكاسب أشكالاً مختلفة، مثل تشغيل بعض القادة أموالهم الخاصّة لدى بعض التجار، وتلقي رشىً على شكل صدقاتٍ وتبرّعاتٍ بمبالغ كبيرةٍ يدفعها التاجر للمسؤول "الداعشيّ" بحجّة معرفة الأخير الأوجه المستحقة لإنفاقها بشكلٍ أفضل، وتلقي قادة "الدواعش" معاملةً خاصّةً –الشراء بأسعارٍ أقلّ- في معاملاتهم اليومية. ويحرص بعض قادة "داعش" على تقديم المساعدة لبعض أصحاب الثروة الكبار دون مقابلٍ حاليٍّ، وفق ما يُعرف بـ"زرع الجميل"، على أمل تحقيق استفادةٍ لاحقةٍ من الثريّ كردٍّ لهذا "الجميل".
فرض قضاة "داعش" على تاجرٍ يعبّئ الأرز في أكياسٍ تقلد ماركةً شهيرةً دفع مبلغ (200) ألف دولارٍ كغرامةٍ بذريعة الغشّ، في حين لم تبالِ بمقلدين آخرين لبضائع وسلعٍ أخرى.
قضية المخرز
في الشهر التاسع من عام 2014 اختفى جامع أموالٍ شهيرٌ في الرقة، يلقب بـ"المخرز"، في ظروفٍ غامضة. قالت بعض الشائعات إنه هرب، وقالت شائعاتٌ أخرى إنه معتقلٌ لدى أمنيي "داعش" طمعاً بالأموال المتجمّعة لديه، التي قدّرها تجارٌ من الرقة بـ(20) مليون دولارٍ تقريباً. تلاحقت الدعاوى المرفوعة ضد المخرز إلى قضاء "داعش" الذي بدا مرتبكاً وغير مؤهلٍ لهذا النوع من القضايا –كما لمعظم الأنواع الأخرى- فتناوب عدّة قضاةٍ على النظر في هذه القضية، طبّق كلٌّ منهم إجراءاتٍ مختلفةً عن الآخر، وتعامل بعضهم بطرقٍ مختلفةٍ مع كلّ مودعٍ من مودعي الأموال. إذ تسبّب أحد هؤلاء القضاة في خسائر إضافيةٍ لبعض المودعين عندما رغّبهم في دفع الأرباح التي تلقوها من المخرز أولاً، لإعادة توزيعها على مودعين آخرين، على أن يستردّوا رؤوس أموالهم لاحقاً. ولم يحصل المخدوعون بوعود هذا القاضي على أيّ شيء، في حين ساعدت وساطات أبو علي الشرعي، وهو مسؤولٌ نافذٌ في التنظيم، بعض المودعين في استرداد كامل أموالهم. ذكّرت هذه الحادثة السكان بحوادث مشابهةٍ عن جامعي أموالٍ وقعت في عهد نظام الأسد، ودلت على افتقار البيئة في ظلّ "داعش" إلى طرقٍ آمنةٍ ومشروعةٍ لتشغيل المال المدّخر الآخذ في التآكل نتيجة الظروف العامة للحرب والظروف الخاصّة بالرقة وبالمناطق الأخرى الواقعة تحت سلطة "داعش".