كتب الباحث الإسرائيليّ المختصّ بالشأن السوريّ، إيال زيسر، هذا الكتاب بالعبرية في مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب. ثم ترجم إلى عددٍ من اللغات، كان من بينها العربية. وصدرت ترجمته هذه في القاهرة عن دار مدبولي عام 2005.
شكلت وفاة حافظ الأسد، في 10 حزيران 2000، نهاية حقبةٍ من تاريخ سورية الحديث، وبداية مرحلة حكم ابنه بشار، الذي وُضع على سكّة الرئاسة "بالغفلة"، إثر حادث السير الذي وقع لشقيقه القويّ باسل، الذي كان يُعدّ لوراثة السلطة، في كانون الثاني 1994. وبالإضافة إلى غياب النضج الشخصي، ونقص الخبرة والثقة بالنفس، وبقية العيوب التي سارع الكثيرون إلى إخراجها في شخصية المرشح الجديد للوراثة؛ كان الأمر المتفق عليه من قبل الجميع هو افتقاره إلى الكاريزما والقدرة على القيادة، أو، حسب تعبير باتريك سيل: " بشار تعوزه "غريزة القاتل" الضرورية جداً لكل من يريد أن يحكم هذه الدولة"! ويجب أن لا تدفعنا كمية جرائم القتل التي ارتكبها بشار منذ ذلك الوقت –ولا سيما في عهد الثورة- إلى التشكيك في حكم هذا الخبير المحنّك في الشأن السوريّ. فمن الواضح أن كلّ جرائم بشار الكبيرة كانت من دون ما أسماه سِيل "غريزة"، بل يقودها الطيش والرعونة وجنون العظمة السخيف، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريريّ وحتى البراميل التي يساوم عليها حيناً وينكرها في أحيانٍ.
استلم بشار الأسد في البداية جهازاً سلطوياً وسياسياً قادراً على أداء عمله بنفسه، وإن كان متآكلاً يصدر الصرير. ونظر الجميع وقتها إلى النجل بوصفه الخيار الوحيد المتاح، خوفاً من صراع بعض من يرون أنفسهم ورثاء محتملين، وبعض مراكز القوى التي كان الأب قد قلّص نفوذها إلى حدٍّ بعيدٍ خلال السنوات السابقة. واستجابةً للكمّ الهائل من الوعود التي واكبت صعوده، بوصفه الرئيس الشابّ الذي تلقى تعليمه في الغرب، والقريب من التكنولوجيا وعالم الإنترنت؛ أطلق بشار ما أسماه إصلاحاتٍ منذ خطاب القسم، ولكنه أعطى المؤشرات، في الوقت نفسه، على عدم تجاوز النقاش العامّ خطوطاً حمراء هي: شخصية وأفعال والده الراحل، وموقع ووظيفة الجيش والقوّات الأمنية، والموقع القياديّ -المثبّت في الدستور- لحزب البعث، والرؤية الاشتراكية التي كانت لا تزال نبراساً يهتدي النظام به. ونبّه، في الوقت نفسه، إلى أن "الوطن هو مثل العائلة، وعليه فليس من المنطقيّ أن يتحدّث أفراد العائلة عن مشاكلهم الداخلية في الوقت الذي يكونون خارجه. حيث أنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم سيفقدون احترام الآخرين"!
حاول بشار تليين عبادة الشخصية التي ارتبطت بوالده. وقام بعددٍ من الجولات "العفوية" في دمشق وفي بعض المحافظات، مما عزّز الصورة المرتقبة له كرئيسٍ عصريٍّ ومنفتحٍ ومتواضع. إلا أن التجربة الفعلية والمحكّ الحقيقيّ كان في ما أُطلق عليه اسم "ربيع دمشق"، وهو مجموعة من النشاطات السلمية البسيطة التي بدأ بتفعيلها مثقفون ورجال أعمالٍ رأوا في وعود الرئيس الجديد ما يمكن أن يبنى عليه. فانتشرت منتديات الحوار في البلاد، وإن ظلت ظاهرةً نخبويةً لا تغيب أعين الأمن عنها، ولكنها وعدت بالتوسّع وبالتحوّل إلى منابر أو أحزابٍ سياسيةٍ، وناقشت كثيراً من المواضيع التي لطالما اعتبرت ضمن الخطوط الحمراء. وفي مطلع 2002 صدرت الوثيقة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدنيّ، والتي عرفت بوثيقة الألف. وفي شباط من العام نفسه أطلق بشار شارة الهجوم على هذه النويات الإصلاحية، موضحاً: "كنتُ قد قلتُ في خطاب القسم إننا لا نتطلع إلى تفجير وتدمير ما هو قائم، بل تطويره". وتبعتْ هذا الكلام حملةٌ ضد دعاة الإصلاح قادها كبار مسؤولي النظام وحزب البعث، تمهيداً للحملة الأمنية التي اعتقلت أبرز ناشطي هذا الربيع، مما كان كفيلاً بإخماده وإعادة أمور الاستبداد إلى مجاريها، وإن بتعسّفٍ وفظاظةٍ أقلّ شكلياً مما كانت عليه في عهد الأب.
أما التجربة الأبرز للوريث في السياسة الخارجية، خلال وقت تأليف هذا الكتاب، فكانت العاصفة التي أثارتها الحرب الأمريكية على العراق في 2003. إذ كان يبدو كمن يجد صعوبةً في توجيه دفة السفينة إلى شاطئ الأمان، وكان يُخيّل أيضاً أنه لا يفوّت أية فرصةٍ لارتكاب الأخطاء في كلّ ما يتعلق بعلاقاته مع الولايات المتحدة. لكنه، في لحظة الحقيقة، تجنّب المواجهة معها، متصرّفاً بكلّ دقةٍ وفق "التقليد الأسديّ".