لم يكن هناك أيّ تفسيرٍ للعبارات التي كُتبت على ورقةٍ ألصقت على الجدار بجانب باب إحدى الشقق: «يا أخ فائز... انتقل الأهل إلى العنوان التالي: سيف الدولة ـ موقف العلوم ـ جانب صيدلية العلوم ـ بناية المدينة...»! يتطلّب الأمر كثيراً حتى تفهم أن عائلة أحد مفقودي الثمانينات قد اضطرّت إلى تغيير منزلها، وكتبت هذه الورقة أملاً في ظهوره المفاجئ!
كان الزمن في أوائل التسعينات. وكانت الدفعات الأولى من المفرج عنهم من سجن تدمر –وسواه- تظهر فجأةً كشبحٍ عائدٍ من الموت، يطرق باب منزل عائلته دون سابق إنذارٍ، زائغ البصر، يشبه ذاك الذي غاب منذ عقدٍ من الزمن، أو أكثر، ويختلف عنه وكأنه أطلاله أو حطامه، لا بسبب النحافة الشديدة لجسده والأسمال البالية التي جاء مرتدياً لها فقط، بل بتأثيرٍ وشمٍ لا يُمحى أثره في النفس، سيستمرّ في الظهور حتى بعد أن يعاود القريب/ الغريب تناول أطعمة الأم، والجلوس بين المهنئين صامتاً وكأنه مذعور، ولزمنٍ طويلٍ جداً في المستقبل.
***
كانت غالبية السجناء الإسلاميين من نزلاء سجن تدمر، حيث ينقطع المرء عن العالم الخارجيّ تماماً، وينقطع العالم عنه. إذ ليس في «نظام» تدمر زياراتٌ، كتلك التي في السجون السياسية الأخرى، حيث أودع المعتقلون اليساريون أساساً. كما لم تلتزم الأجهزة الأمنية أو سواها بإبلاغ ذوي المفقودين أيّ شيءٍ عنهم، مما ترك هؤلاء الأهالي فريسة التناوب بين الأمل واليأس، وفي مهبّ الإشاعات والأخبار الطائشة والقصيرة، فضلاً عن تفسير «منامات» الأم أو الأب أو أيّ قريبٍ محتمل.
فعلى خلاف عقد السبعينات، عندما كان ذوو المعتقلين يعرفون، على الأقلّ، أماكن احتجاز أبنائهم، ويطمئنون عموماً إلى أنهم أحياء هناك، ما لم يحدث ما هو خارج المألوف، ويزورونهم، وإن وسط جوٍّ من البيروقراطية الأمنية المعادية؛ جاءت الثمانينات دامسةً في هذا الملف، كما كانت مظلمةً في كلّ شيءٍ تقريباً. فقد جرى التعتيم على مصير من سُجن بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. ولم تُجب الجهات المعنيّة على السؤال البديهيّ والملحّ: أهُم أحياءٌ أم أموات؟!
***
في روايته التوثيقية «القوقعة»، يروي مصطفى خليفة حكاية الزيارات في سجن تدمر، والتي كانت خارج «النظام»، واستمرّت لستة أشهرٍ فقط، حتى نُقل مدير السجن الذي كانت والدته تستلم من ذوي أيّ معتقلٍ كيلو غراماً من الذهب مقابل ورقةٍ بالسماح بالزيارة. وخلال الأشهر الستة هذه أحصى السجناء 665 كيلو من الذهب قد وصلت إلى مدير السجن.
أما في حلب، التي كان كثيرٌ من سجناء الإخوان المسلمين ينتمون إليها، فقد لعبت والدة زهير مشارقة، الأمين القطري المساعد لحزب البعث ونائب رئيس الجمهورية، وفق تعريف الإعلام الرسميّ، هذا الدور. ولكن يبدو أن قلب السيدة مشارقة كان أرحم، إذ كانت تكتفي بأساور ذهبيةٍ معتبرة الوزن مقابل الزيارة، دون أن يصل بها الطمع إلى اشتراط الكيلوغرام، كما في «التسعيرة» آنفة الذكر!
يتضمن الإعلان بشأن المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة، الذي اعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1985، جملةً من المبادئ المنصوص عليها في القسم المعنون بـ«العلاقات الاجتماعية والرعاية بعد السجن»، تتناول بعض التفاصيل التي تتعلق بحياة السجين ثم المفرج عنه:
79- تُبذل عنايةٌ خاصّةٌ لصيانة وتحسين علاقات السجين بأسرته، بقدر ما يكون ذلك في صالح كلا الطرفين.
80- يوضع في الاعتبار، منذ بداية تنفيذ الحكم، مستقبل السجين بعد إطلاق سراحه، ويشجَّع ويساعَد على أن يواصل، أو يقيم، من العلاقات مع الأشخاص أو الهيئات خارج السجن، وكلّ ما من شأنه خدمة مصالح أسرته وتيسير إعادة تأهيله الاجتماعيّ.
1/81- على الإدارات والهيئات الحكومية أو الخاصّة، التي تساعد الخارجين من السجن على العودة إلى احتلال مكانهم في المجتمع، أن تسعى بقدر الإمكان لجعلهم يحصلون على الوثائق وأوراق الهوية الضرورية، وعلى المسكن والعمل المناسبين، وعلى ثيابٍ لائقةٍ تناسب المناخ والفصل، وأن توفّر لهم من الموارد ما يكفى لوصولهم إلى وجهتهم ولتأمين أسباب العيش لهم خلال الفترة التي تلي مباشرةً إطلاق سراحهم.