هيئة التحرير
زادت التطوّرات في الفترة الأخيرة من تسليط الضوء على الدور المباشر للدول الإقليمية في الوضع السوريّ على المستويين السياسيّ والميدانيّ، بشكلٍ مختلفٍ عن السنوات السابقة من عمر الثورة والصراع. وتجلى هذا في ارتفاع وتيرة النقاشات والمشاورات التي تدور في محصّلتها حول التدخل الميدانيّ المباشر، ولعب أدوارٍ أكثر جديةً في سبيل تطويق، أو التقليل من، آثار الفوضى التي أنتجها النظام وسياسات الدول المعنية بالملف السوريّ. وقد انعكس ذلك في محورين أساسيين شغلا الرأي العامّ في الأيام الماضية. المنطقة الآمنة وحساباتها ارتبطت تصريحات الرئيس التركيّ، رجب طيب أردوغان، وكبار المسؤولين الأتراك حول إنشاء المنطقة الآمنة بسلسلةٍ من التطوّرات الميدانية والسياسية المباشرة. فقد سبق هذه التصريحات تفجيرٌ أودى بحياة عشرات المدنيين في مدينة سوروش الجنوبية، وتفجيرٌ آخر أدّى إلى مقتل جنديين تركيين وجرح عشراتٍ آخرين في ولاية ديار بكر. ليعقب ذلك بدء القوّات الجوّية التركية بشنّ غاراتٍ على مواقع حزب العمال الكردستانيّ الذي حمّلته أنقرة مسؤولية الهجوم الثاني، وغاراتٍ مماثلةٍ استهدفت، للمرّة الأولى، مواقع لتنظيم داعش داخل سوريا. ويأتي ذلك بالتزامن مع اتفاقٍ تركيٍّ–أمريكيٍّ يقضي بالسماح للمقاتلات الأمريكية باستخدام قاعدة إنجرليك التركية في نشاطاتها الجوّية ضدّ داعش مقابل "اتفاق أنقرة وواشنطن على ضرورة توفير الدعم الجويّ للمعارضة السورية المعتدلة، وضمان تركيا حدّاً ما من مطالبها وشروطها"، وفق تعبير رئيس الوزراء التركيّ أحمد داود أوغلو. ويغلب الظنّ أن هذه المصالح والشروط تتمحور بشكلٍ رئيسيٍّ حول حسابات أنقرة في المناطق الشمالية من سوريا، وتحديداً تجاه نفوذ الفصائل الكردية الذي لا تنظر إليه تركيا بعين الارتياح، أو حول تقديم الدعم لفصائل ثوريةٍ تحارب نظام الأسد. وبالمقابل، لاقت هذه التصريحات تشكيكاً مبرّراً في جدية التدخل التركيّ، خاصّةً بعد تحديد المسؤولين الأتراك لطبيعة المنطقة الآمنة المفترضة، التي قال نائب رئيس الوزراء بأنها ستمتدّ من جرابلس، الخاضعة حالياً لسيطرة داعش، إلى مارع بريف حلب، بطول 100 كيلومتر وعمق نحو 50 كيلومتراً. ليعقب ذلك تصريحٌ لأحمد داود أوغلو ينفي فيه نية أنقرة إرسال قوّاتٍ بريةٍ إلى سوريا، مما زاد من حدّة هذا التشكيك، وسط حديثٍ عن العقبات التطبيقية أمام إقامة هذه المنطقة في حال عدم التدخل التركيّ المباشر. ولتُطرح جملةٌ من التساؤلات المشروعة عن هوية الفصائل التي ستقوم بتطهير هذه المنطقة من الوجود الداعشيّ في حال استُبعدت القوّات الكردية، ومن هي الفصائل التي ستقوم أنقرة بدعمها والتنسيق المباشر معها في ظلّ المعايير الدولية الصارمة لتسمية الفصائل "المعتدلة"، فضلاً عن آلية حظر طيران الأسد. لكن المؤكّد أن التصريحات التركية، وما تلاها من خطواتٍ شبه عمليةٍ، تمثل تطوّراً تصاعدياً في الموقف. إذ لم تكن التفجيرات والقلاقل الأخيرة التي طالت الداخل التركيّ هي الأولى من نوعها خلال السنوات الخمس الفائتة، في حين شهدت الأشهر الأخيرة حشداً للقوّات التركية على الحدود وتوغلاتٍ برّيةً استعراضيةً لنقل مقام سليمان شاه ولحماية بعض الطرق إليه. ولذلك تبدو فكرة المنطقة الآمنة خياراً جدياً قابلاً للتطبيق في الأسابيع القادمة، خاصّةً مع ما قد توفره من "حلٍّ" لقضية اللاجئين السوريين لم يتجاهله الرئيس التركيّ في حديثه. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الظرف السياسيّ التركيّ الداخليّ، الذي قد يسهم في تسريع هذه الخطوة أو إبطائها. فيما يشكّل مجرّد التلويح بهذه الخطة مزيداً من تقويض وتحجيم دور النظام الأسديّ. الثوّار ينقلون المعارك إلى "مناطق" النظام شكّل تقدّم الثوّار في جبهة سهل الغاب أحد أبرز الأحداث الميدانية على الساحة مؤخراً. فقد دفع دخول جيش الفتح لمسافة 30 كيلومتراً في عمق خطوط دفاع النظام الأولى عن "مناطقه" إلى جدّية الحديث عن انتقال المعارك من المناطق الثائرة إلى المناطق الموالية، وصولاً إلى الساحل. وهذا ما أظهره تحرير البلدات والتلال الاستراتيجية على هذا الخط. وأدّت هذه المعارك إلى اهتزازٍ حقيقيٍّ للنظام دفعه إلى الاستنجاد بميليشيا حزب الله والمرتزقة الآخرين للدفاع عن هذه المناطق التي تعدّ عمقه الاستراتيجيّ وخزّانه البشريّ، تزامناً مع حملات قصفٍ هستيريٍّ أوقعت العديد من الشهداء في قرى ريف إدلب، وأدّت إلى ضرّرٍ كبيرٍ لمحطة زيزون الحرارية. ورغم هذه الاستماتة من قبل النظام؛ تبقى أهم النتائج هي المزيد من ربط المناطق المحرّرة ببعضها من خلال السيطرة على رقعةٍ جغرافيةٍ واسعةٍ من أرياف اللاذقية وحماة وبالطبع إدلب، لتظلّ هذه الجبهة الهامة حربةً دائمة تقضُّ مضاجع قوّات النظام وتستهلك المزيد من قدراته وقدرات حلفائه الخارجيين.