انخرطت تركيا في الثورة السورية منذ بدايتها، سواءٌ من خلال سياسة الحدود المفتوحة أمام أفواج اللاجئين، أو باحتضانها الأطر الرسمية للمعارضة السورية كالمجلس الوطني ثم الائتلاف، أو بتقديمها تسهيلاتٍ لوجستيةً للتشكيلات المسلحة. يعيش اليوم قرابة مليوني لاجئٍ سوريٍّ على الأراضي التركية، موزّعين بين المخيّمات والمدن. يتمتع المسجلون منهم بتأمينٍ صحيٍّ كامل، بما في ذلك الحصول على الدواء بأسعار رمزية. وإضافةً إلى الحكومة السورية المؤقتة، اتخذت عشرات المنظمات المهتمة بالشأن السوريّ المدن التركية مقرّاتٍ لها.
لهذه الأسباب مجتمعةً، كان مفهوماً أن يهتمّ السوريون بالانتخابات العامة التي أجريت في السابع من حزيران الجاري، وأن يغلب عليهم القلق من احتمال ارتداد نتائجها سلباً على موقف الحكومة التركية من ثورتهم، أو على وضع اللاجئين السوريين في تركيا. وارتفع منسوب هذا القلق مع ظهور النتائج التي كشفت عن خسارة حزب العدالة والتنمية للغالبية في مجلس النواب، بما سيرغمه على التحالف مع حزبٍ آخر لتشكيل حكومةٍ ائتلافية. خاصّةً أمام المواقف المعلنة لأحزاب المعارضة من المسألة السورية، والتي يمكن إجمالها بأنها متعارضة مع موقف الحزب الحاكم.
فـحزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، أرسل وفوداً برلمانيةً إلى دمشق للقاء رأس النظام الكيماويّ. وهو يتبنّى عموماً رواية النظام عما يحدث في سوريا. ولم يكتف بذلك، بل توعّد بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، في مسعىً لاستثمارٍ رخيصٍ لبعض مظاهر الاستياء الاجتماعيّ من وجودهم، التي عبّرت عن نفسها من خلال اعتداءاتٍ على سوريين في بعض المدن خلال العام الماضي.
أما حزب الحركة القومية المتشدّد فلم يسجّل له موقفٌ محدّدٌ من الثورة السورية، لكنه ينتقد كلّ سياسات حكومة العدالة والتنمية، بما في ذلك سياستها الخارجية. غير أن اهتمامات هذا الحزب منصبّةٌ على مشكلات تركيا الداخلية، وبخاصّةٍ المسألة الكردية التي يعارض تفاوض الحكومة بشأنها مع حزب العمال الكردستانيّ وزعيمه السجين عبد الله أوجالان، ويتهم الطرفين بالعمل على تقسيم تركيا.
أخيراً حزب الشعوب الديموقراطيّ، الضيف الجديد في البرلمان التركي وممثل الكرد فيه. وإذا كان موقف هذا الحزب إيجابياً من اللاجئين السوريين، بل يطالب لهم بوضعٍ قانونيٍّ معترفٍ به يؤمِّن لهم حماية حقوقهم كلاجئين، فهو يعارض الموقف السياسيّ للحكومة من المسألة السورية، ويتهمها بدعم المجموعات الجهادية كجبهة النصرة وداعش وأحرار الشام ضد الكرد في سوريا. بعبارةٍ أخرى يكاد موقف هذا الحزب، الذي يعدّ الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستانيّ، يتطابق مع موقف الفرع السوريّ لهذا الأخير والمعروف باسم حزب الاتحاد الديموقراطي برئاسة صالح مسلم. ويكاد حزب الشعوب الديموقراطيّ لا يرى مما يحدث في سوريا إلا حرب داعش على المناطق الكردية. ولم يصدر عنه أيّ شيءٍ فيما يتعلق بالموقف من نظام دمشق، لا بالسلب ولا بالإيجاب. وقد أثار ظهور رئيس الحزب صلاح الدين دمرتاش على قناة المنار، الناطقة باسم حزب الله، استياء السوريين المعارضين، باعتباره نوعاً من الانحياز غير المباشر للنظام وحلفائه.
السؤال الذي يقلق السوريين، بعد الانتخابات، هو: هل تتغير سياسة الحكومة التركية تجاه الثورة السورية أم لا؟
يتوقف الجواب عن هذا السؤال على نوع التحالف الذي من المفترض أن يشكّل الحكومة الجديدة. ذلك أن موقف حكومات العدالة والتنمية من المسألة السورية لا يحظى في تركيا بإجماعٍ وطنيٍّ، كما رأينا من خلال استعراض مواقف الأحزاب الأخرى. وبالتالي لا تعتبر السياسة المتبعة إلى اليوم مما تفرضه المصلحة الوطنية العليا أو مصلحة الدولة التركية. صحيحٌ أن حزب العدالة والتنمية ما زال هو الحزب الأكبر في البرلمان الجديد، لكنه سيكون مرغماً على تقديم تنازلاتٍ لشريكه الائتلافيّ الأصغر، ولن يتمكن من فرض رؤيته إلا بالتوافق معه.
سيناريوهات الحكومة الائتلافية:
إذا تشكلت الحكومة من تحالف العدالة والتنمية مع حزب الشعب الجمهوريّ، فمن المرجّح أن يفرض هذا الأخير شرطه في تغيير السياسة السورية للحكومة، وإعادة إحياء مسار الاندماج التركيّ في الاتحاد الأوروبي، ومواصلة العمل على السلام الداخليّ مع الكرد. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، في هذه الحالة، يتعلق بمدى قدرة الحكومة على تغيير سياستها السورية بعد كلّ هذا التورط الذي له ما له من تداعيات. لنتخيل مثلاً إغلاقاً تاماً للحدود وإبعاد قسمٍ كبيرٍ من اللاجئين السوريين وطرد ممثلي المعارضة السورية السياسية والمسلحة من الأراضي التركية. إن انقلاباً من هذا النوع ليس مما يمكن أن تحتمله أية دولة، فما بالك بدولةٍ كتركيا قائمةٍ على توازناتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ هشةٍ وتفتقر إلى الاستقرار السياسيّ. المعنى أن انقلاباً مماثلاً يتطلب زمناً ليكتمل بأقلّ الأضرار الممكنة، خاصّةً وأنه يتعلق أيضاً بتحالفات تركيا الخارجية (السعودية وقطر) وتالياً بالتوازنات الاقليمية (ضرورات توازن القوّة مع المحور الإيرانيّ) مما يدخل الموضوع برمّته في باب المصالح العليا للدولة التركية.
أما إذا تحالف العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، فلا نعتقد أن السياسة السورية للحكومة ستتعرّض لتغييرٍ كبيرٍ كالموصوف في الحالة الأولى، وذلك بسبب غياب اشتراطاتٍ من هذا النوع لدى الحزب القوميّ المتشدّد. من المحتمل، في هذه الحالة، أن تستمرّ السياسة الحالية إزاء سوريا ولكن مع إخضاعها لشيءٍ من الانضباط والمراقبة، أي دون تفرّد جهاز الاستخبارات بالملفّ السوريّ بعيداً عن الأضواء وعن المساءلة.
في حين إذا تحالف الحزب الحاكم مع الحزب الكرديّ، فسوف يتمّ التركيز على مسار الحل السلميّ المجمّد مع حزب العمال الكردستاني، لتتراجع المسألة السورية في الاهتمام الحكوميّ إلى مرتبةٍ أدنى، خاصّةً مع الرقابة الصارمة التي من المحتمل أن يفرضها الشريك الحكوميّ الكرديّ على ما يُفترض أنه دعمٌ بالسلاح لجماعاتٍ جهاديةٍ عاملةٍ على الأراضي السورية. غير أنه يمكن أن يؤدّي تحالفٌ مماثلٌ إلى إطلاق دينامياتٍ جديدةٍ فيما يتعلق بعلاقة تركيا مع حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD)، أعني طيّ صفحة العداء السابق وفتح صفحةٍ من التعاون بين الطرفين. هذا سيناريو متفائلٌ جداً قد يشكل مدخلاً إيجابياً إلى حلّ عقدةٍ سوريةٍ داخليةٍ طالما استنزفت المعارضة لمصلحة النظام. أعني ذلك التعارض المفتعل بين المصلحة الوطنية الثورية والمصلحة الفئوية الكردية. لكن هذا السيناريو، للأسف، بعيدٌ عن الواقع.
الاحتمال الأخير هو تشكيل ائتلافٍ ثلاثيٍّ من أحزاب المعارضة، وإخراج العدالة والتنمية من الحكم. هذا سيناريو ممكنٌ نظرياً إذا فشل العدالة والتنمية في إقامة تحالفٍ حكوميٍّ مع أيٍّ من أحزاب المعارضة. ففي هذه الحالة يقضي العرف السياسيّ أن يكلف رئيس الجمهورية رئيس حزب المعارضة الرئيسيّ (الشعب الجمهوريّ) بتشكيل الحكومة. وهو لا يستطيع، عددياً، أن يشكلها إلا مع الحزبين المعارضين الآخرين، إذا استبعدنا تحالفه مع العدالة والتنمية. ما يجعل سيناريو الحكومة الثلاثية أقرب إلى الاستحالة إنما هو صعوبة الجمع بين الحزبين القوميين التركيّ والكرديّ في حكومةٍ واحدة.
يتمنى حزب العدالة والتنمية أن يتمكّن من إقناع حزب الحركة القومية بتشكيل حكومةٍ ائتلافية، فهو الأقرب إليه إيديولوجياً، وهناك قاعدةٌ اجتماعيةٌ متداخلةٌ بينهما، فضلاً عن عدم وجود اعتراضاتٍ جديةٍ من هذا الحليف المحتمل على السياسة السورية للحكومة.
لكن توقعات المراقبين تميل أكثر إلى سيناريو الفشل في تشكيل أية حكومةٍ ائتلافيةٍ على الإطلاق، أو انهيارها السريع إذا تشكلت. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام تركيا إلا الذهاب إلى انتخاباتٍ مبكّرةٍ لن تجرى قبل الخريف المقبل، بعد استنفاد فرص إقامة الحكومة الائتلافية، أو حكومة أقليةٍ مدعومةٍ من الخارج.
وفي هذه الحالة يتوقع بعض المحللين أن يستعيد العدالة والتنمية غالبيته النيابية، نظراً إلى أن الناخب سيفضّل استعادة الاستقرار بعد أشهرٍ من الفراغ الحكوميّ المفزع على المستويين الأمنيّ والاقتصاديّ. وهذا ما يعيد إنعاش أحلام أردوغان بالنظام الرئاسيّ بعدما تلاشت في أعقاب انتخابات 7 حزيران.
الخلاصة أن السوريين اليوم أمام فترةٍ حرجةٍ من عدم اليقين فيما يتعلق بالوضع السياسيّ في تركيا.