عدسة عمر
لم ينم خالد الحميدي، سائق سيارة الإسعاف في مشفى موحسن الميداني، في بيته منذ 380 يوماً.. ولا يبدو أنه سينام فيه قريباً.
فوظيفته المرهقة والخطرة، لم تترك له وقتاً كافياً للنوم في فراشٍ عاديٍ في منزله. ولا يستطيع أصلاً أن ينام بعيداً عن سيارته، ففي كل لحظةٍ هناك احتمال أن يسقط جريح. ومن حسن حظ الجرحى أن خالداً، ورغم تجاوزه للثلاثين من العمر، ما يزال أعزب، مما يعني وقتاً أكبر يقضيه في عمله؛ أربعاً وعشرين ساعةً من اليوم، وسبعة أيام من الأسبوع.
يشعر خالد بالسعادة رغم المخاطرة والتعب، كما يقول، لأنه يسهم بإنقاذ حياة الناس. وهو يشعر بقلقٍ عندما يسمع أنّات الجرحى ويعجز عن فعل شيءٍ لهم، سوى أن يقبض بقوةٍ أكبر على المقود بكلتا يديه، ويضغط على الآخر بقدمه على دعّاسة البنزين، لتسرع السيارة أكثر، ويصل بجريحه إلى المشفى في وقت أقل.
قبل الثورة، كان خالد سائق شاحنة ثقيلة في قطر. ومع اندلاعها ترك وظيفته التي تدرّ عليه دخلاً جيداً، وعاد إلى مدينته موحسن، في ريف دير الزور، ليكون في صفوف الثوار.
وسرعان ما أصبح مطلوباً لأجهزة الأمن، مما يعني حرمانه من إمكانية السفر، ليكتمل بذلك دافعه الشخصي للبقاء والانخراط في أعمال للثورة بشكل أكبر، من المظاهرات السلميّة، إلى تأمين احتياجات مقاتلي الجيش الحر، وغيرها من الأنشطة. ليجد نفسه أخيراً يقود سيارة الإسعاف، من مواقع القصف، أو خطوط الجبهة والمعارك، إلى المشفى الميداني، التي تعتبر، عن جدارةٍ، واحدةً من أهم المشافي الميدانية في سوريا المحرّرة والمحاصرة، نظراً لآلاف الإصابات التي استقبلتها منذ تأسيسها وحتى اليوم، في ظروف عملٍ يقال عنها بارتياح إنها مستحيلة. وبدون تلطّف زائدٍ أيضاً، يقول المنصف لكل عاملٍ في فريقها الطبي: أنت بطل، لأنك تعمل منذ سنة كاملة، وتحت القصف اليومي، وبدون أجر. وفي مراتٍ كثيرةٍ وأنت جائعٌ ومرهق، ولم تنم ليلة أمس. وحتماً سيكون خالد بين هؤلاء الابطال. فالمشفى التي تشكل هدفاً مفضّلاً لمدفعية بشار الأسد وطائراته في دير الزور، لا تحظى بما تحتاجه من عنايةٍ أو اهتمامٍ من المنظمات الطبية ذات الصلة. ولا يبالي سائق سيارة الإسعاف، أو أيٌ من رفاقه، بتلك المنظمات. ولا يهتم كثيراً بأخبار المصاريف الفاحشة التي ينفقها العاملون في هيئات المعارضة السورية ومؤسساتها في الخارج. فهو لا يريد من هؤلاء سوى تأمين احتياجات المشفى، وملء خزان سيارته بالوقود، همَّه الرئيسي الذي يقلّ ويندر في بعض الأيام، مما يعني ـ وبكل بساطة ـ أن تهدد حياة مصاب ربما يعيش إن أسرعت سيارة الإسعاف إليه. أسعف خالد الحميدي كثيراً من الثوار. استشهد بعضهم على الطريق ونجا الكثير منهم. وكذلك أسعف كثيراً من جنود الأسد الذين يقعون في الأسر بعد إصابتهم. هؤلاء أنفسهم الذين لم يكونوا ليتركوا خالداً وشأنه لو وقعت سيارته البيضاء في مرمى قناصاتهم. وفي مرةٍـ كما يروي ـ كان الأسير الجريح بمفرده على السرير في الحوض الخلفي للسيارة. وكان خالد يقود مسرعاً كعادته، متوجهاً إلى المشفى، ليسمع ضرباتٍ على النافذة من خلفه. كان الجريح يحاول أن يتحدث معه. سأله: أين أنا؟ مع الأمن العسكري، مازحه خالد. فعرض الأسير عليه رشوةً ليتركه يهرب. فزجره خالد وهدّده أنه سيخبر "المعلم" بمحاولته هذه، مما دفع الجندي إلى المزيد من البكاء والتوسل، ليطمئنه خالد أنه يمزح، فهو الآن بين الثوار، وفي طريقه إلى المشفى ليعالج هناك من إصابته، بعد أن تركه رفاقه من جنود الأسد ولاذوا بالفرار.
لسائق سيارة الاسعاف في مشفى موحسن الميداني أمنيتان: أن يسقط بشار الأسد، وأن يعالج جميع الجرحى ولو استمر علاجهم لسنوات.