عدسة كرم - خاص عين المدينة
الحميدية «في دير الزور» حي يُمسك بالحياة في زمن الحرب بكامل ألقه الإنساني
عن عصافير عبد الله وابتسامة حي محرر
عين المدينة | خاص | شادي عز الدين - أنور الخليل
الحميدية, قلب ديرالزور وأكبر أحيائها, وهو الحي الذي صمد أكثر من ستة أشهر تحت الحصار, يعاود الحياة الآن بعد أن كُسِر هذا الحصار وفُتِح محور جسري الكنامات والسياسية, حيث عاد بعض النازحين من أبنائه إلى بيوتهم وفتحت بعض المتاجر بالقليل من البضائع التي تدخل إلى المدينة.
وفق إحصائيات سابقة بلغ عدد سكان الحميدية ثلاثين ألفاً, وفي أيام الحصار هبط هذا الرقم إلى 600 شخص فقط وفق أرقام ناشطي الإغاثة ومعظم الباقين هم ممن تقطعت بهم السبل فلم يتمكنوا من المغادرة.
اسماعيل رجل خمسيني ووالد لطفلتين من ذوي الاحتياجات الخاصة, ومصاب بمرض السكر وازرقت قدماه من هذا المرض, يعيش وابنتاه على معونات الإغاثة وعلى ما يستطيع ابنه الشاب أن يجنيه من عمله في تحميل البضائع الداخلة إلى المدينة, على الرغم من انتساب هذا الشاب لإحدى الكتائب المقاتلة, حيث يعمل نهاراً ليعيل أباه وشقيقتيه, ويرابط ليلاً على الجبهات وخطوط التماس.
تـُقسِم أم محمد وهي ربة منزل من الحميدية أنها لا تملك أجرة السفر إلى أي مكان! وتتساءل بحيرة وبلهجة الأمهات الديريات
«إذا طلعتو, لوين أروح ؟، شلون أدبر مكان, أظل قاعدة ببيتي, وعلى ولادي, ترانا عايشين ويفرجها الله»
والـ «على»هذه في عبارة المرأة ,امتياز خاص في لهجة الديريات العتيقة ,حيث تعني مشاعر الثبات والحماية والايثار التي تبديها الأم الديرية مع مركز ثقلها النفسي الوحيد :الأبناء
صمـدت أم محمد وهي المريضة بمرض مزمن أشهر عدة, وكذلك فعلت جارتها العجوز التي لن تترك بيتها أبداً كما تقول, ذلك البيت الذي أسسته من لحــــمها ودمها خلال أربعين عاماً، ولا تريد أن تموت إلا فيه, قصص الأمهات الصامدات في حي الحميدية مدهشة وتتجاوز في معانيها مفاهيم الثورة والحرب إلى معان أخرى في وجـــود الكائن البشري وتشكيله العميق, وخاصة مع العجائز اللاتي وضعن تحت كل جدار من بيوتهن قطعة من القلب وفي كل غرفة شيئاً من الروح,
ولا يشبه حب المرأة الديرية لبيتها كما تقول معلمة مدرسة نازحة من ديرالزور حب أية إمرأه أخرى للبيت.
حياة الحي .. وخدماته
يعيش أغلب الأهالي في الطوابق السفلية من البنايات, فهي تحقق شيئاً من الأمان أمام القذائف المتساقطة, وتحسنت في الآونة الأخيرة خدمات الماء والكهرباء ليبقى تامين المواد الغذائية في مقدمة همومهم اليومية مع ارتفاع أثمانها من المصدر، وخلال عبورها لجسر السياسية الخطر تحت رصاص قناص بعيد ثم مرورها الصعب عبر جسر الكنامات المحطم, حيث يعمل حمالة مختصون في نقلها على جانبي الجسر, ويحاول الشبان الذين يعيلون أسرهم أن يعملوا بأي شيء كالمتاجرة بكميات قليلة من المعلبات, أو البنزين، والزبون الرئيسي له هم أصحاب الدراجات النارية وسائقو سيارات الجيش الحر, وفي جانب آخر يحاول مقاتلو الحر مساعدة الأهالي ومنظمات الإغاثة وبكل ما يستطيعون، فعند سيطرتهم على مقر الهجانة المجاور للحميدية, عثر المقاتلون على مستودع كبير للمواد الغذائية, حافظوا عليه وتركوه كاحتياطي لحالات الطوارئ, وعندما سببت شظايا القصف حريقاً في هذا المستودع شارك كثير من الشبان بإفراغه وتوزيعه على الأهالي، ويقول سليمان إنه ساهم بإطفاء الحريق وحمل أكياس السكر والبرغل والأرز, وإنه فرح كثيراً “لأن الأهالي استفادو من مخزن الهجانة
أو مستودعات بشار حسب قوله.
وأيام سقوط الشهداء يظهر ابو علاء في مواقع الدفن وهي في الحميدية اي قطعة مكشوفة من الارض ,فسحة او باحة مسجد او حديقة ,تعهد ابو علاء بعد استشهاد احد ابنائه ,ان يدفن بيديه كل شهيد يسقط من الجيش الحر ,ولا يأبه بالمخاطر ساعات القصف ولا يهتم الا بمواراة الشهداء االتراب ووفق الشريعة وكما يليق بالابطال
والجرحى....
في أيام الحصار القاسية, تعفنت جروح الكثير من المصابين نتيجةً لعجز الكوادر الطبية والمسعفين عن علاجهم أو نقلهم إلى خارج المدينة حيث بترت أطراف بعض الجرحى وتوفي البعض الآخر.
ويمضي الجرحى أيامهم بتتبع أخبار المعارك والجبهات ومشاهدة القنوات الإخبارية, وطرح النقاشات الطويلة حول أخطاء الثورة والجيش الحر, ولا يملون من سرد قصص المعارك التي شاركوا فيها، والدبابات التي تطلق القذائف نحو رؤوسهم وتخطئ بفضل رعاية الله لهم, ويساعد بعض الأطباء القلائل والممرضون هؤلاء الجرحى كثيراً ويحرصون على العناية بهم, وتأمين الأدوية اللازمة لهم, كما يفعل الصيدلي أيمن الركاض الذي يقدم الدواء بالمجان بعد أن اشترى جميع الأدوية الموجودة في الصيدليات الأخرى التي تركها أصحابها ونزحوا.
أعراس على طريقة الحـــــــــــــر
في أماسي الحميدية التي يخصها الربيع هذه الأيام برائحة خاصة، هي مزيج بين نسمات البادية وغبار طلع أزهار الحدائق المنزلية التي يحرص عليها الأهالي في هذا الحي .
قد تقام حفلة زواج, لكن بطريقة مختلفة عن المعتاد, فالعريس في أغلب الحالات مقاتل من مقاتلي الجيش الحر, والعروس هي بنت واحدة من الأسر القليلة التي رفضت النزوح, واتخذت قرارها الشجاع بالاقتران بمقاتل يمتهن المخاطـــــــرة بحياته كل يوم.
ولا تجهيزات كثيرة يوم العرس, ولا أساور أو حلي ذهبية, ولا ثياب جديدة أيضاً, ولا مهنئين كثـــــر فمعظم الأقــــارب والأصدقاء قد نزحوا. بلباس عادي وقليل من الزينة تحتفل العروس, بحفلة سريعة تغنى فيها أغاني الثورة فقط, وهتافات بالبطولة والنصر على النظـــام ثم جولة بموكب من سيارات الكتيبة التي ينتمي إليها هذا العريس المقاتل, وكل هذا مصور بعدسة إعلامي الكتيبة أو اللواء.
أطفـــــال وحيـــــــاة
في الشوارع, مازال أطفال الحميدية مصرين على اللعب, ولو على بعد أمتار من مكان سقوط قذيفة أو خلال غارة جوية في سماء المدينة, وفوارغ الرصاص الكثيرة أضحت مادة جديدة للعب, حيث يتنافس الأطفال في جمعها وتشكيلها بجمل وكلمات على الأرصفة, أو وضعها في علبة معدنية وهزها لتصدر أصوات لم تعد مزعجة مقابل دوي المدافع وهدير الطائرات.
وبعيداً عن اللعب يشارك الأطفال أيضاً في حملات النظافة التي ينظمها الأهالي والناشطون, حيث يتسابق الأطفال في جمع أكياس القمامة وتنظيف مداخل البنايات والأرصفة ودفع الحاويات القليلة التي تبقت بعد أن تحول أغلبها إلى متاريس وستائر تحمي من الرصاص
انعتـــــــاق ...
يلاحق ناشطون مدنيون معظمهم من طلبة الجامعات, بكتاباتهم الحائطية أخطاء الثورة والثوار, ويوقعون بكلمة واحدة «انعتاق» وهو اسم التجمع الذي أسسه هؤلاء الناشطون حديثا ويبغون منه
وكما يقول «عضو التجمع فراس» التصدي لأخطاء أخواننا في الجيش الحر, وتذكيرهم دوماً أن هناك من يراقبهم مع كل المحبة والتقدير والاعتراف بدورهم وبطولاتهم, فراس هذا لم ينزح من ديرالزور وآثر البقاء لأنه يعرف أن له دور ضروري في الحي
و «انعتاق» هي واحدة من نشاطاته مع آخرين في توعية الناس وتعويدهم على رأي آخر قد يخالف آرائهم ويلخص فراس انعتاق بجملة واحدة «انعتاق تعادل التحرر والحرية , لقد كنا مسجونين في قفص في مملكة الأسد, فتح باب القفص الآن ولن يغلق أبدا»
ولا يعرف هيثم وهو شاب آخر من انعتاق كثيراً عن مستقبل تجمعهم بعد انتصار الثورة ورحيل الأسد, فربما يؤسسون نادياً للشباب أو يصبحون كتلة ثقافية او ينفرط عقدهم ,ويمضي كل واحد منهم في طريقه وتغدوا انعتاق مجرد ذكريات جميلة قد يستعيدها بالصدفة إن مر بشارع وقرأ على جدار ما عبارة من صنعه وتوقيعاً بالانعتاق
مع اثنين من رفاقه ,اسس طالب هندسة يرفض التصريح عن اسمه «انعتاق» ويتحدث الناشط الشاب عن حلمه الانعتاقي بامل وحماس ,ويرجو كما يقول أن تترك كتابات حركته الحائطية أثراً ايجابياً, يلطف مظاهر الخشونة في لغة الناس وافعالهم ,خشونة يعتبرها الشبان الانعتاقيون ,مؤقتة,جاءت كما يقول فراس بفعل العنف الرهيب الذي مارسه النظام في هذه المدينة ,ويقدم المؤسس تعريفا شاعريا لحركته الناشئة بالقول : «انعتاق لكل الذين تذوقوا طعم الحرية, واستخفوا بالموت ليصنعوا قواعد جديدة في الحياة.
لا تقتصر نشاطات «انعتاق» على الكتابات الحائطية, فهم يجتمعون أحيانا للتباحث في قضية ثورية أو مشاهدة فلم وثائقي وربما ويضحك فراس «نلعب الورق فقط».
عصافير الحميدية وحمامها
افتتح عبد الله محلاً للعصافير من غرفة في منزله، وذلك بعد أن نقل بضاعته الوادعة من محله الأصلي في خط التماس من حي الجبيلة, إلى محله الجديد الذي أقامه وعلى عجل بإزالة جدار من إحدى غرف بيته المطلة على الشارع, وعلق فيه أقفاص العصافير التي يعشقها، والتي اصرعلى إطعامها والعناية بها خلال كل أشهر الحرب الطويلة، وسيستمر في ذلك كما يقول ولو سقط ألف صاروخ, تثير رؤية عصافير عبد الله اللطيفة مشاعر إعجاب بهذا الرجل المفعم بالمحبة
ويكسر تغريدها شيئا من مشاعر الخوف التي تبرز لحظة تحليق الطائرات أو دوي المدافع والثواني السبعة عشر الفظيعة التي يعدها السكان بين انطلاق القذيفة من مدفعها وسقوطها على منزل أو شارع أو جدار ,تخاف عصافير عبدالله في تلك اللحظات وتلوذ بالسكوت داخل أقفاصها ,كذلك قد تلوذ كلاب شاردة من شدة الرعب بين أرجل واقفين في حيز شبه آمن أو تتسلل هلعة إلى عمق البيوت
وعندما تخلو السماء من هياكل الخوف في فترات الهدوء, قد تحلق فوق الحميدية كائنات أخرى مسالمة ,حمامات بسرب أو سربين او ثلاثة , لمربين رفضوا النزوح وآثروا البقاء إلى جانب طيورهم الجميلة, وآثروا النظر عالياً في السماء نحوها على التفتيش عن كسرة خبز يابس في باحة مدرسة من مدارس النازحين.
ورغم كل شيء, من الموت إلى الخراب إلى فقدان الأهل والأحبة, مازالت نساء الحميدية يُخِطن الأعلام ويقدمن الشاي بألفة للزوار القلائل , ومازال أطفالهن يبتسمون للكاميرات ويرفعون بأياديهم شارات النصر والحياة