توجيه لمعتقلين قبل إطلاق سراحهم - وكالة AP
يعاني ذوو المعتقلين والمفقودين في سجون النظام الأسديّ من صعوبة الحصول على أيّة أخبارٍ تخصّ أبناءهم وبناتهم، نظراً لاستمرار النظام بانتهاج سياسة إخفاء المعلومات بشأن مصير وأماكن المغيّبين في زنازينه. فنشأت إثر ذلك شبكاتٌ من السماسرة، تستغلّ قلة حيلة الأهالي. وهكذا تحوّلت ساحة المرجة، والمقاهي والكافيتريات القريبة من المحكمة المدنية، إلى ملعبٍ لعمليات النصب والتزوير. يقوم بها جيشٌ من المحامين المغمورين، وموظفو المحاكم والعاطلون عن العمل، يطوفون حول مراكز تجمع الأهالي ليعرضوا خدماتهم في تحديد مكان احتجاز أولادهم، أو في الإفراج عنهم لقاء مبالغ ماليةٍ ضخمة.
آليات النصب والاحتيال
تقول أم حسين: حين لم أفلح في معرفة مصير ابني، الذي اعتقله الأمن العسكريّ في محافظة دير الزور؛ سافرتُ إلى دمشق لتوسيع دائرة بحثي هناك. فقد قيل لي إنّ الفرع لا يحتفظ بالمعتقل لأكثر من ستين يوماً، ثم يحوّله إلى دمشق. وكنت قد عييت من سؤالي عنه بلا نتيجةٍ ولا معلومةٍ تسـكّن قلبي الذي هدّه الخوف. وفي دمشق انضممت إلى طوابير الأمهات والآباء المتجمّعين حول المحكمة المدنية، فكانت هذه محطتي الأولى لانطلاق عملية البحث عنه. وهناك رأيت العجب؛ محامين متنقلين يعرضون وكالاتهم في حقائب مهترئة، يقفون على نفس الرصيف الذي نتجمّع عليه، وسماسرةً يلكزونك فجأةً ويخبرونك أنهم قادرون على المساعدة، لقاء دفعةٍ أولى فقط، والثانية عندما يتمّ أمر الإفراج المزعوم. وقد يدعوك أحدهم لفنجان قهوةٍ ليبرز عضلاته وقدراته الخارقة في معرفة مصائر الموقوفي؛. فهو على صلةٍ مع العميد فلان أو علان، وكلمته عنده لا تصير اثنتين. أو قد يكون قريباً لأحد موظفي الحكومة الكبار، أو حتى مقرّباً من آل الأسد!
بــلغـت أعـداد المعتقلين لدى النظام، منذ بداية الثورة وحتى نهاية تشرين الأول من عام 2014، 265 ألف معتقلٍ تقريباً. فيما بلغ عدد المفقودين الموثقين 102 ألفاً تقريباً، بحسب مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية.
وتقول حنان، التي اعتقل زوجها: وعدني أحدهم بالمساعدة، بعد أن أخبرني أنه يعمل بشكلٍ سرّيٍّ مع أحد أفراد عائلة الأسد. وأخذ مني عهداً ألا أفشي "سرّه الكبير" هذا. ثم قال إنّ هناك من سيأتي لي بصورةٍ لزوجي. وبعد يومين، اتصل بي ليطلب ثمن الصورة 50 ألفاً، وليبلغني أنّ لديه واسطةً أخرى تستطيع إخراج زوجي من المعتقل لقاء مبلغ 500 ألف ليرة. فوجئت، ورفضت العرضين. لكنه، وبأسلوبٍ مهذّبٍ، ألحّ عليّ أن أرى الصورة فقط، وسيدفع هو عني! كانت الصورة عبارة عن ورقةٍ تضمّ لائحةً بأسماء مؤرشفة، وكان اسم زوجي واسم أبيه وأمه ضمن هذه اللائحة، بالإضافة إلى رقمٍ من إحدى عشرة خانة. وحينما استفسرت عن الرقم قال إنه الرقم الوطنيّ لزوجي. أمعنت النظر فيه. لم يكن رقمه الوطنيّ الذي بتّ أحفظه عن ظهر قلب، كان مختلفاً. ولولا أنني أحتفظ بصورةٍ لهويته في حقيبتي لكنت وقعت في فخّ نصبهم واحتيالهم.
تقول فاطمة بغضب: ننتظر هنا منذ شهورٍ، ولا يخرج إلا حديثو الاعتقال. أولادنا "تخّوا" في السجون، سنتين وثلاث. أين هم؟ طلبوا مني تسجيل اسم ابني مع المفقودين ومراجعتهم لاحقاً. عشر مرّاتٍ سجلته والجواب في كلّ مرّةٍ غير موجود. أين ذهبوا بأولادنا؟؟
الفوضى المقصودة
بعيداً عن ساحة المرجة، تعدّ محكمة "مكافحة الإرهاب" المجاورة لوزارة العدل، إحدى أهمّ وجهات ذوي المعتقلين. إذ يتجمّع مئاتٌ من الآباء والأمّهات أمام المحكمة، قاصدين الوصول إلى داخلها بحثاً عن أيّة معلوماتٍ عن الأبناء والبنات والأزواج المفقودين، خصوصاً بعد الهلع الذي أثاره نشر وكالات الأنباء لصور الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب في أفرع المخابرات العام الماضي. وبالطبع، يلتمّ السماسرة أينما حلّ الأهالي، لكن بفارقٍ في أسعار "الواسطات" هنا. فقد طلب أحد المحامين من والد معتقلٍ مبلغ مليوني ليرةٍ مقابل التوسّط للإفراج عن ابنه الذي يحاكم في هذه المحكمة، بعد أنّ اختفى لأشهرٍ في أقبية المخابرات دون أن يعرف ذووه عنه شيئاً. فيما عزا "المحامي" ارتفاع المبلغ إلى أن: "القاضي لا يرضى بأقلّ من ذلك. وأنا لي أتعابي فقط!".
في محكمة "مكافحة الإرهاب" تتراصّ وتتدافع أرتال المراجعين تحت درجٍ طويلٍ وعلى أطرافه في انتظارٍ لا ينتهي، بعد أن سمح لهم عناصر الأمن بالدخول بعد جولة تفتيشٍ دقيقة. ويعدّ قسم "الأبجدية" المقصد الرئيسيّ للأهالي، نظراً لاحتوائه على لوائح أسماء المعتقلين المحوّلين من أفرع المخابرات إلى محكمة مكافحة الإرهاب. لكن هذا القسم لا يلبّي الغرض دائماً في ظلّ الفوضى المتعمدة هذه. "عشرون مرّةً بحثت في الأبجدية، ولا وجود لاسم ولدي. سنتان ونصف والتحقيق معه لم ينتهِ بعد؟ ثم يقولون لي راجعي الأمن الوطنيّ. وعند المراجعة عودي بعد شهرين. ماذا ينتظرون؟ لمَ كلّ هذا التأجيل؟"، تقول أمّ معتقل.
يقول عدنان: أكثرت السؤال عن ولدي فأخبروني في الشرطة العسكرية في القابون أن ابني ميت. سلموني هويته وطلبوا مني أن أذهب إلى مشفى تشرين لأخذ شهادة وفاته. حينما وصلت المشفى كنت محطّماً. مددت يدي إلى جيب سترتي، حيث وضعت هوية ابني، وناولتها للموظف المسؤول دون أن ألقي عليها نظرة. بعد لحظاتٍ عاد يحمل ظرفاً. أخذته وخرجت. ارتميتُ على مقعد سيارتي حزيناً مهدوداً. فتحت الظرف، كانت شهادة الوفاة لي، إذ أخطأت في إعطاء الموظف الهوية المطلوبة. ابني حيّ، وهم كاذبون. نعم هم كاذبون.
خارجون من الجحيم
يقول عبد الله: سنةُ ونيّفٌ قضيتها مرميّاً في المهجع رقم 11 في أقبية فرع فلسطين. كنا مغيّبين ومعذّبين، أنا والكثير من زملاء الاعتقال. هناك من مضت عليه سنتان في المهجع. ولم تحدث أية زيادةٍ في أعدادنا إلا حينما توارد همساً أنّ عفواً سيصدر عما قريب. عمّت الفوضى أياماً وامتلأت الشواغر الكثيرة التي أحدثها موت الكثير منّا، وافتُتحت مهاجع إضافيةٌ أخرى، وغصّت الأقبية بالوافدين الجدد، ثم فجأةً عادت الحركة إلى ما كانت عليه من الهدوء. حينما دخلت المعتقل في هذا الفرع كان عدد المهاجع الجماعية ستة عشر. وبعد ثمانية أشهرٍ صار أربعاً وعشرين مهجعاً، رغم أننا كنا نفقد من مهجعنا معتقلَين أو أكثر تحت التعذيب أسبوعياً.
محمود، الخــارج من سجن صيدنايا، يقول: ثلات سنواتٍ كنت ميتاً في نظر أهلي. إذ بعد إنهائي لخدمة العلم بشهرين اعتقلوني بتهمة محاولة الانشقاق، وساقوني إلى سجن صيدنايا، وأعلموا أهلي بموتي. مورس علينا التعذيب الوحشيّ، لكن جسدي كان قوياً فبقيت حياً. زملاء كثر ماتوا أمام عيني، وآخرون سيقوا ليُعدموا ميدانياً. كنت أظن انني ســــأقضي هناك، لكنني خرجت. وحينما تلا السجان اسمي لم أصدّق. جمعونا في غرفةٍ كـــــبيرةٍ وأوسعونا ضرباً بأسياخ الحديد وأعقاب البواريد. لقد أفرغوا جام غضبهم فينا لأننا سنخرج. ثم حملونا في شاحنةٍ ورمونا عند مفترق الطرق المؤدية إلى دمشق. هناك رأيت النور لأوّل مرّةٍ بعد ثلاث سنوات.
بعد الثانية عشرة ظهراً، وأمام الباب الكبير للقصر العدليّ، يشتدّ زحام أهالي المعتقلين يومياً، إذ تبدأ المحكمة عملها ويخرج المحظوظون من الفروع والسجون. علاوي شابٌّ يخرج الآن بثيابٍ مهلهلةٍ وشعرٍ أشعث وعيونٍ شاخصة، فتتجمّع الأمهات حوله حاملاتٍ صور أبنائهنّ. هل رأيت ولدي هذا؟ أرجوك، انظر جيداً. إنه في عمرك؟ من أيّ فرعٍ خرجت؟ أين كنت؟ خذ الشاي يا بني وهذه المعروكة. اجلس، اجلس هنا، تعال! ينظر مشدوهاً إلى الجميع ويقول: لم أرَ شيئاً. الظلام كان دامساً تحت. لا أعرف أين كنت. يقفز بقدمٍ واحدةٍ. يسنده أحدهم. يجلس على رصيف الشارع يخبط بيده على ساقه الخالية من قدم. يعلو صراخه ويجهش بالبكاء: أريد رجلي، ما بدّي شي، أريد رجلي.
توصّلت لجنة الأمم المتحدة المختصّة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، في تقريرٍ لها نشر في كانون الأوّل 2013، إلى أنّ السلطات السورية ترفض إعطاء أيّة معلوماتٍ بشأن مصير أو أماكن وجود الأشخاص المخفيين. ويبدو أن هذه سياسةٌ متبعةٌ من قبل السلطات لحرمان الأسر من الحصول علي أيّة معلومة. وفي بعض الحالات يتمّ اعتقال الأقارب الذين يقتربون من أجهزة الأمن، مما ينتج عنه مزيدٌ من الانتهاك من قبل السلطات السورية لحقّ هذه الأسر في معرفة الحقيقة فيما يتعلق بظروف الاختفاء القسريّ ومصير الأشخاص المختفين.