ليس من حق أيٍّ من السوريين الموجودين في القاهرة، وسواها من المدن المصرية، المشاركة في تظاهراتٍ واعتصاماتٍ أو أي نشاطٍ سياسيٍ مصريٍ. هذا أمرٌ معروفٌ بالنسبة إلى أفراد أي جالية مهاجرة أو لاجئة مؤقتاً، وقد أكّدت عليه بيانات عديدة صدرت عن ممثلي الجالية السورية بمصر، قبل تاريخ 30 حزيران/ يونيو وبعده. وفي حال مشاركة أيٍ من السوريين في نشاطات سياسية، إلى جانب أيٍ من معسكري الصراع المصري الدائر، فإن من حقّ السلطات هناك اتخاذ الإجراءات التي تمليها أنظمتها المرعيّة لشؤون المقيمين أو النازحين، بحقّ المخالف لهذه القوانين.
حسناً... هذا ما علينا، كما يقال... وهو مما لا يجادل فيه أحدٌ من أوساط السوريين في مصر، ناشطين وغير ناشطين. أما ما لنا فهو كثير. لنا أن لا يؤخذ أي سوريٍ بفعل آخر، كما تقتضي أبسط قواعد العدالة القضائية والإنسانية، فإذا كان عددٌ من السوريين قد شاركوا في بعض التظاهرات والاعتصامات المصرية ـ وهو ما لم يثبت بالدليل حتى الآن ـ فإن هذا لا يعني إيقاع العقاب الجماعي بالسوريين!
ولا وصفهم بكونهم مرتزقة يخرجون للتظاهر مقابل مبالغ مالية محددة! ولا اتهامهم بمحاولة تسليح مصريين ونقل الحرب الأهلية إلى بلادهم! ولا إعادة النظر في أصل الحالة الإنسانية والسياسية والعسكرية الكارثية التي حدت بهؤلاء السوريين إلى اللجوء إلى مصر، إعادة تقييم الموقف وقراءة بشار الأسد من جديد، مبرَّءاً من جرائمه التي جاوزت مائة ألف شهيد، فقط لأن مائة أو مئاتٍ من السوريين ربما يكونوا قد شاركوا في مظاهراتٍ تدعم خصوم هذه المحطة التلفزيونية أو هذا "المحلل" السياسي أو هذا الإعلامي!!
لكن الأهم ليس هنا بالفعل، رغم أننا استعملنا كلمة "جالية"، لأن معظم السوريين يترقبون العودة إلى مدنهم بأسرع ما يستطيعون، فلن يضيرهم جدياً ما يتعرضون له من خطابٍ تحريضيٍ ونكدٍ، كما قد يتأثر الفلسطينيون مثلاً، الذين يتعرضون لخطابِ كراهيةٍ أشدّ وأكثر تأثيراً، ما دام المعبر الوحيد لقطاع غزّة (رفح) بيد المصريين دوماً.
ولكن المشكلة ليست هنا أيضاً... فلـ "يغور" السوريون والفلسطينيون في الدواهي التي كتبتها لهم أقدار أقطارهم المعقّدة والعنيفة. المشكلة الأعمق والأدوم هي مصريّة بامتياز، وهي تتصل بما يمكن أن نطلق عليه على العموم تراجعاً مريعاً في المستوى الإعلامي، والثقافي المرتبط به، والسياسي التلفزيوني المزعوم تحليلاً أو برامج حوارية مصرية.
فمن يلاحظ أداء هذه القنوات ومقدّميها وأكثر ضيوفها في الأسبوعين الماضيين، على الأقل، يلحظ ارتداداً إلى انحطاطٍ طويلٍ عاشته الحياة المصرية العامة أيام مبارك، عهد ظهور الإعلام الخاص وتوسع القنوات وتكاثر البرامج والإعلاميين، وتعدد الضيوف تحت ضغط استهلاك الميديا.
فأصبح من المألوف تماماً أن تشاهد من يحرّض بوضوحٍ على مصريين شركاء له في الوطن، مستهيناً بدمائهم لا بآرائهم أو حرياتهم فحسب، وملمّحاً إلى أن "الأهالي" في منطقة كذا سيعرفون كيف يؤدبوهم، في بلطجةٍ واستهتارٍ أخرق بقواعد السلم الأهلي ودولة القانون. كما أنك ستجد صعوبةً كبيرةً في العثور على ضيفٍ أو محللٍ يقدم خطاباً متماسكاً ـ أياً كان توجهه ـ ضمن الحلقة الواحدة للبرنامج، لا يتناقض ما بدأ فيه عما انتهى إليه، إن لم نطلب أن يكون منسجماً مع نفسه على الدوام! فلا يستغرب أن يبدأ ناطقٌ معتمدٌ كلامه بالإصرار على السلمية، ثم يتوعّد أبرز مخالفيه بالموت. وليس نادراً أن يبدأ إعلاميٌ حديثه عن خصومه باتهامهم بصحراوية العقل والدين، وينتهي بإزجاء المديح المغالي لدول الخليج وحكامها، لمعوناتهم السخية!
يحفظ المصريون قصيدة حافظ إبراهيم التي غنتها أم كلثوم، والتي تتحدث فيها مصر عن نفسها قائلة: «وقف الخلق ينظرون جميعاً/ كيف أبني قواعد المجد وحدي». ويجب أن يتذكروا، حين يظهرون على الشاشات، أن «الخلق ينظرون جميعاً» إليهم بالفعل، سواءً في بنائهم قواعد العقل والعدالة والكرامة، أم في خطلهم واضطراب أحكامهم وغلبة التحيزات والأحقاد و«الردح» السفيه عليها.