من الصعب أن يتخيّل المرء شعور الأب وهو ينقل أولاده بتعجّلٍ إلى القارب الصغير من على الشاطئ التركيّ؛ سعيداً لأنه استطاع الوصول إلى هذه المرحلة من رحلة الهروب، بعد تصفية ما أمكن من أمورٍ في البلد، وتأمين المبلغ الكبير الذي تتطلّبه الرحلة، والاهتداء إلى مهرّبٍ موثوق؛ قلقاً من إجهاض المحاولة قبل أن تمخر عباب الألم والخوف، مشوَّشاً من التعليمات المتسارعة للمهرّبين خشية مباغتة دورية الشرطة؛ مخلوع القلب من كلّ هذا الموج، يعرف، للمرّة الأولى في حياته، وحرفياً، معنى أن تسلم نفسك وقطع روحك للمجهول؛ آملاً في السكن، والمعونة، والشوارع النظيفة والمدارس المحترمة؛ مسترجعاً الصور التي شاهدها على الفايسبوك لأطفال سواه، وجوهاً شمعيةً وأجساداً باردةً منتفخة.
يا كلّ هذا الوجع!!
وفي غمرة هذا المأتم الحالك الطويل، الممتدّ من أصغر قريةٍ سوريةٍ يستهدفها «سلاح الجوّ في الجيش العربيّ السوريّ»، كما يحلو لمؤيّدي الأسد أن يسمّوا جرائم براميلهم الطائرة، وحتى عشرات الحدود والمخيّمات هنا وهناك؛ يضحك هؤلاء بتلذّذٍ مريع! يسندون ظهورهم إلى مقاعدهم، يؤشّرون بأصابعهم العشرة التي تدور كأنها طاحونة الموت: ألم نقل لكم؟!
بلى، قالوا لنا ولكننا أبينا أن نصدّق... قالوا لنا إن الأسد مريضٌ ومجرمٌ إلى هذه الدرجة وأكثر، وقالوا لنا إنه لهذا السبب بالضبط يجب أن لا نثور عليه!
أيّ حكمة؟!
نعم، قلتم لنا الكثير عن «حرق البلد»، وعن قتل الحاكم وزبانيته الممسوسين لمواطنيهم حتى آخر قطرة دمٍ من أحد الطرفين. لم نصدّق؛ ببساطةٍ لأننا لا نُبطن هذا المدى من الإجرام ولا نستطيع تصوّره. لقد قلتم الكثير بالفعل، لا عن رئيسكم وجيشه وطياريه فقط، بل عن أنفسكم أيضاً. وها أنتم تكرّرون القول كلّ مرّةٍ وفي كلّ مناسبةٍ تتيح شماتة الموت.
ونحن، طالعين من تحت الأنقاض، منتَشلين جثثاً من العباب؛ لن نسامحكم. وإذا كانت أيادي الأسد وعصابته قد تلطّخت بالدماء فقد انحدرت أنفسكم إلى دركٍ أخلاقيٍّ مؤلمٍ للغاية هو، بالضبط، ما ثرنا لنخلّص أنفسنا، ونخلّصكم أنتم أيضاً، منه.