لا يتفاءل المُتابع لتطوّر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ريف إدلب بالمستقبل كثيراً. بل إن الكثير من الناس العاديين باتوا متشائمين من المستقبل حتى أكثر من الحاضر، ويعلنون تخوفهم من الآثار السلبية التي تُخيّم عليهم وعلى الوضع العام، والتي ستؤدي إلى مستقبلٍ يكون نتاجاً لهذا الحاضر.
بدايةً، يشغل الحيّز الاقتصاديّ اهتماماً كبيراً لدى أغلبية الناس الذين صاروا يراقبون انهيار الليرة السورية التي وصلت إلى تراجعٍ قياسيٍّ مقابل الدولار، ما أدى إلى ارتفاعٍ جنونيٍّ في أسعار الخضروات والمواد الغذائية وقف المواطن أمامه عاجزاً عن تأمين لقمة العيش لأطفاله. فأصبحت بعض المواد، كاللحمة والموز والليمون، من أحلام الماضي. لكن الأقسى أنّ العائلة المؤلفة من سبعة أفراد، مثلاً، تحتاج إلى 500 ليرة يومياً لتأمين الخبز! ومن هذا المبلغ البسيط فقط يُمكن تخيّل عدد الأطفال المُتسرّبين من المدارس ومزاولتهم أعمالاً شاقة، كالعمل في ورشات البناء، وتحميل المواد على الشاحنات، وبيع المازوت، وبيع الدخان على البسطات، كي يستطيعوا مساعدة عائلاتهم في ظروفٍ حياتية صعبة تصل إلى حدّ وصفها بـ"الحياة المهينة"!!
كالنار في الهشيم ينتشر الفقر، ويُغلّف البؤس وجوه الناس، وتغيب منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة عن بلداتٍ وقرىً عديدة، وإن حضرت فلا تُقدّم إلا النزر اليسير. أما الأدهى فهو غياب المبادرات الجماعية والمنظمة لأصحاب رؤوس الأموال الذين صعدوا فجأةً مستفيدين من الثورة أو من الأوضاع التي أوجدتها، ولكنهم برهنوا عن أنانيةٍ قاتلة، ولا مبالاةٍ تجاه أبناء شعبهم. في حين كان بإمكانهم أن يلعبوا دوراً إيجابياً بتشكيل جمعياتٍ خيريةٍ متعددةٍ تستطيع أن تؤدي دوراً هائلاً وبديلاً عن منظمات الأمم المتحدة وغطرستها، وتستطيع إنجاز مشاريع بنىً تحتيةٍ تسدّ نقص المياه الصالحة للشرب والكهرباء وبناء المدارس وتعبيد الطرقات، والمساعدة في بناء الثروة الحيوانية وفي الزراعة، مما يؤدّي أيضاً إلى تأمين فرص عملٍ جديدةٍ تُسهم في نقل مجتمع مدينة إدلب وريفها إلى حياةٍ كريمة: مجتمع منتج وفاعل.
لقد كانت للحياة التي يعيشها الناس منعكساتٌ سلبيةٌ عدّة، منها ضعف العلاقات العائلية إلى حدّ الانقطاع عن صلة الرحم في أحيانٍ كثيرة، وازدياد العزوبية والعنوسة بين الشبان والشابات نتيجة عدم توافر العامل الماديّ لتأمين منزل الزوجية وملحقاته، والسعي إلى تأمين المال بطرقٍ غير شرعيةٍ أحياناً. وقد دفع هذا الوضع الكثير من الشبان إلى الانضمام إلى الفصائل العسكرية الثورية، رغم أن بعضهم غير مقتنعٍ بالثورة وبأهدافها أصلاً، ولكن لتأمين مبلغٍ بسيطٍ من المال: حوالي أربعين دولاراً في الشهر، لا يكفي ثمناً للكهرباء والماء والخبز. وبشكلٍ عامٍّ لا يلتزم الشبان بهذا الفصيل أو ذاك نتيجة خياراتٍ سياسية، وإنما بناءً على علاقات الصداقة أو القرابة أو لمجرّد وجود الفصيل في المنطقة. ولكن هذا لا ينفي أنّ البعض يختار بناءً على وعيٍ سياسيٍّ ودينيّ، كجبهة النصرة التي يتميز أعضاؤها عموماً بالسلوك القويم والأخلاق العالية والالتزام الدينيّ. لكن جميع هذه الفصائل يغيب عنها التأهيل السياسيّ لعناصرها، ويظهر هذا جلياً في إخضاعهم -عند الالتحاق- لدورةٍ شرعيةٍ وعسكريةٍ فقط، وتغيب الدورة السياسية نهائياً. وواضحٌ أن سبب الإهمال هو النقص في الكوادر السياسية، وعدم الاهتمام أصلاً للجانب السياسيّ كعاملٍ مهمٍّ في تكوين العقلية الثورية الواعية. إن وجود مكتبٍ سياسيٍّ لبعض الفصائل -كحركة نور الدين الزنكي- مهمٌّ جداً، لكن أثره في مناطق وجود الحركة معدومٌ تماماً، مما يعني أن وجوده شكليٌّ أصلاً. ومما يدلّ على ذلك هو أنه لا الحركة ولا غيرها من الفصائل كافةً –على حدّ علمي– تصدر صحيفةً خاصّةً باسمها، وهذا نقصٌ خطيرٌ في السياسة وفي تشكيل حاضنةٍ اجتماعيةٍ تكون أداةً في نهوض الوعي الثوريّ الخلاق لدى الشعب.