لم أكن أتخيّل وأنا أعيش تلك الأيام أنني سأحنّ إليها الآن، بل وأعتبرها أجمل ما مرّ بي! حين كان زوجي بالكاد يحصل على ما يسدّ رمقنا كنت أتذمّر كثيراً، غافلةً عن نعمة أن يكون معنا أنا وأطفالي الستة.
بعد اشتداد قصف قوّات النظام على دير الزور، منذ حوالي عامٍ ونصف، غادرنا أنا وزوجي إلى الرقة، حيث أقمنا في بيتٍ صغيرٍ استأجرناه مع عائلةٍ أخرى من أقاربنا. وهناك قرّر زوجي أن يعود إلى المدينة لجلب بعض الأغراض من منزلنا، إلا أنه لم يرجع... عثر الناس على بطاقته الشخصية في الجورة، دون أيّة تفاصيل أخرى.
النزوح للمرّة الثانية
عشنا في الرقة حياةً صعبةً جداً إلى أن بدأت عملية تحرير المدينة، وهنا اضطررت مع أبنائي إلى حزم الأمتعة القليلة التي تصدّق بها علينا أهالي الحيّ وبعض الجمعيات الخيرية، و قررت أخذ أبنائي والنزوح إلى مدينة الميادين، التي كانت، وريفها، مقصد غالبية أبناء الدير في الرقة. وحيدةً كنت مع أطفالي. استشهد العديد من أقاربي، واعتقل أخي المعيل الوحيد لإخوته، وبالتالي لم يعد الظرف الماديّ لأهلي يمكّنهم من مدّ يد العون لي. عشنا فترةً عصيبةً في الميادين؛ تمكنا من إيجاد غرفةٍ في إحدى المدارس للإقامة فيها، وكان مصدر الرزق الوحيد هو الصدقات وبعض المعونات من الجمعيات الخيرية، والتي تخفف من معاناة أبنائي ولا تنهيها، فحاولت البحث عن مصدر رزقٍ ثابت، إذ كان لديّ استعدادٌ للعمل في أيّةٍ مهنةٍ شريفةٍ تؤمّن طعام أطفالي وكسوتهم. وبعد افتتاح المدارس خطرت في ذهني فكرة أن أعمل كمستخدمةٍ في المدرسة التي أقيم فيها، ونجحت في ذلك. صرت أنظّف المدرسة وأساعد في إنجاز بعض الأعمال للمعلمات والأساتذة، وبين الحين والآخر قد يوفقني الله بالحصول على فرصةٍ لتنظيف بيت إحداهنّ، لأحصل في نهاية اليوم على ما كان يحصل عليه زوجي في أفضل الأحوال "قوت يومنا".
السلاح الوحيد الذي أمتلكه هو "صوتي"
ليت الحياة توقفت في امتحانها لي عند هذا الحدّ، بل حدث ما لم يكن يمكن أن يخطر في بال أحد. فقد حضر شقيق زوجي، الشبّيح المنتمي إلى الجيش الوطنيّ، إلى المدرسة حيث أقيم، مستغلاً فترة غيابي، ليأخذ ثلاثةً من أطفالي بحجّة أنه سيأخذهم لزيارة جدّهم في القرية. ومن هناك اتصل بي وساومني عليهم، وهو يعرف أن لا مال يمكن أن أقدّمه له، ولكن ليته طلب مالاً، فقد اشترط عليّ القبول به زوجاً إن كنت أريد رؤية أولادي مجدّداً.
لم ينفع حديثي عن عدم العثور على جثة أخيه، وعن إمكانيّة عودته في أيّة لحظة. كانت هذه المحنة تفوق محنة فقدانه. كنت أفكر ماذا يمكن لامرأةٍ ضعيفةٍ مثلي أن تفعل. وهنا عدت لمراجعة أحداث حياتي خلال الثورة، وما مرّ بي. واكتشفت أن المعاناة التي عشتها خلال الثورة جعلت مني إنسانةً مختلفة. تملكتني رغبةٌ كبيرةٌ بالتحدّي مكّنتني من الذهاب إلى القرية حيث يقيم، واستخدمت السلاح الوحيد الذي أملكه وأجيد استخدامه "صوتي". وخلال دقائق قليلةٍ اجتمع الناس ورويت لهم القصة، وبتأثير ضغط الأهل والجيران أعاد إليّ صغاري.
كانت أياماً صعبة جداً، لا يمكن أن أنساها. إلا أن مأساتي لم تنتهي هنا، ففور عودتي اكتشفت أن العمّ المحترم قام بسرقة دفتر العائلة الخاصّ بي، ليحرمني من الحصول على أي شكل من أشكال المعونات، لأنها مقرونةٌ في الغالب بدفتر العائلة، لتصبح الحياة أكثر صعوبة. لكن معاناة الناس اليوم تجعلني أشعر بأن معاناتي أقل وطأةً يوماً بعد يوم. أشعر، رغم كل خسائري، أنني أدين للثورة بهذه القوّة التي أمتلكها اليوم.