- Home
- Articles
- Radar
«الدولاوية»
مع مرور الأيام يتسع الشرخ في صفوف المناصرين الإعلاميين لتنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي لم تخفه قنواتهم وصفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ. ويبدو هذا الشرخ على أشده بين فئتين؛ يمكن تصنيف إحداهما في تيار السلفية الجهادية الذي ينهل التنظيم من قاعدته النظرية جزءاً كبيراً من شرعيته، على أن هذه الفئة أصبحت نمطيةً قياساً بالفئة الثانية التي تطلق على نفسها اسم «الدولاوية» (مفردها دولاوي)، في إشارةٍ إلى انتمائها إلى دولة التنظيم أو دفاعها عنها ومناصرتها لها.
يعدّ «ترجمان الأساورتي» أبرز الأمثلة لما يسمّى «الإعلام المناصر»، الذي يضم مجموعةَ كبيرةَ من الحسابات التي تحمل أسماء حركية في الغالب، تنشط للدفاع عن تنظيم الدولة في وجه خصومه والترويج له. ويفضل غالبيتهم برنامج تويتر لكنهم، بعد حملات إغلاق حساباتهم عليه، أصبحوا ينشطون على برامج أخرى كالتيليغرام، يعتبرونها بمثابة «معسكرات تدريب الأنصار»، للتوجه بعدها إلى «جبهة تويتر»، كما يسمونها، حيث ينشط السلفيون الجهاديون والسلفيون في العموم. وهؤلاء من يكترث لهم الإعلام المناصر أكثر من سواهم، مستعملاً معارك التنظيم، والحرب التي يشنها التحالف عليه، وإعلانه تطبيق الحدود، وقطيعته مع الجميع، في المواجهات الإعلامية التي يخوضها الفاعلون في الإعلام المناصر، ويتوجهون بها إلى متابعٍ مفترضٍ متحيّرٍ من مواقف قيادته أو مما يجري حوله، وسط كل التعقيدات على الساحتين السورية أو العراقية. وأقل من ذلك، يتوجه الإعلام المناصر إلى متابعين ناقمين في الخليج، ثم في العالمين العربيّ والإسلاميّ، يؤمنون بالإسلام كمرجعيةٍ للعمل في المجال العام. لذلك ليس من المستغرب أن يسمّي مناصرٌ حسابه «حرر عقلك»، أو يقدّم آخر نفسه بعبارة «في بلاد التخلف قد تحاكم بتهمة حيازة عقل»، في وقتٍ تبدو فيه دولة التنظيم في نظر هؤلاء في أقصى درجات البساطة، محققةً للمثال المتخيل.
الدولاوية كما يرون أنفسهم
يدرك الدولاوية أنهم منبوذون اجتماعياً، وقد يكون ذلك أحد أسباب ترويجهم للتنظيم المنبوذ كذلك. ويتمسكون بكونهم «غرباء» (بالمعنى الذي يشير إليه حديثٌ مشهورٌ للرسول) لإضفاء هالةٍ رمزيةٍ على وضعهم الاجتماعيّ والنفسيّ. ويعبّر عن ذلك أحدهم بقوله «منبوذون لأن صاحب الحق منبوذ». وفي هذا المجال يقدم الأكثر خبرةً للمبتدئين، وللأصغر سناً، نصائح حول التعامل مع وضعهم الجديد في أوساطهم الاجتماعية بعد تبني أفكار التنظيم، ويمنحونهم ما يشبه الدعم النفسيّ لمواجهة الجوّ العامّ دائم النيل من دولتهم، كما في إحدى التغريدات الرائجة «لا تحزن حين تسمع شتم أهلك لداعش، اتركهم يشتمونها ويلعنونها، وتحترق أعصابهم وهم يطعنون فيها، فإن الله قد صرف ذلك عنها... فليس هناك شيء اسمه داعش».
تعدّ قنوات «ناشر سياسي» على التيليغرام نافذةً لأمهر المناصرين وأكثرهم حرفية. ويقدم المسؤولون عنها أنفسهم على أنهم مجموعة أكاديميين ومختصين مناصرين للتنظيم يعملون تطوعاً، ويحاولون استقطاب كفاءاتٍ في مجالات البرمجة والعمل الإعلاميّ والكتابة للعمل معهم، ويستعملون للوصول إلى ذلك فكرةً ملتبسةً بالدين، تعتمد على تحريك الشعور بلوم الذات وتأنيب الضمير، تتلخص في دفع المتابعين إلى بذل الممكن والمتاح للتعويض عن تخلفهم عن القتال إلى جانب التنظيم. لكن هذا لا ينفي تلقي مبالغ ماليةً مقابل ذلك العمل، الأمر الذي يظهر من خلال المكافآت التي يخصصها القائمون على «ناشر» لقاء بعض الخدمات التي تصل إلى الاغتيالات! كما في عملهم الذي يتطلب مبالغ كبيرة، كبثهم بدلاً من إذاعة البيان التابعة للتنظيم، بعد أن أغلقت منذ حوالي شهرين.
الدولاوية والسلفيون الجهاديون
اشتهرت الكثير من الحسابات المناصرة، فضلاً عن الأساورتي، كأبو أمينة وأويس الخلافة، من داخل الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم أو من خارجها. ويشارك مريدوهم في نشر تغريداتهم التي تتسم باضطراب اللغة والأفكار، ويسيطر عليها الاستفهام الاستنكاري والسخرية ممن يتهم التنظيم بالتابعية للنظام أو لإيران أو لأميركا، وتحفل بالمصطلحات النابية الخاصّة التي تنال خصومهم «حمير العلم، خنازير الصحوات، المخانيث، المفاحيص..». ويحاول أصحاب هذه الحسابات الترويج لانتصارات التنظيم ومنجزاته، وتسليط الضوء على تناقضات «جبهة الجولاني»، كما يسمونها، وتحالفاتها مع الفصائل الأخرى ومقارنتها بالتنظيم، والسخرية من إعلامييها، والتهجم على رموز الجهاد العالميّ، كالمقدسي والظواهري، الذين يطلقون عليهم لقب «يهود الجهاد»، ويدعون إلى قتل بعض الشخصيات الدينية، ويشيرون أحيانا إلى أحداثٍ أو قراراتٍ أو معارك سيخوضها التنظيم. ويتابعهم المريدون على النهج ذاته لكن مع الكثير من المبالغة والكذب، الأمر الذي يظهر حين يقرّعهم مشاهيرهم في العلن وينصحونهم بالالتزام بأخبار وكالة أعماق الرسمية.
فيما يبدو السلفيون الجهاديون المناصرون للتنظيم أكثر هدوءً واتزاناً وتحفظاً، يسلكون أسلوب «المناقشة والمناصحة» مقابل أسلوب المناكفات الخاص بالدولاوية. وفي حين ينظر الأخيرون إلى المخالفين على أنهم «مرتدون»، ينظر إليهم السلفيون الجهاديون المناصرون على أنهم «ضالون». ويركز السلفيون الجهاديون في حساباتهم على تعليم «العلوم الشرعية»، ويمارس بعضهم الإفتاء، وتظهر آراؤهم أقل قطعيةً وحماساً من آراء الدولاوية، ويلجأون -في بعض الأحيان- إلى الرد عليهم بشكلٍ حادّ، كما غرد أحدهم منذ أيام: «شلة مراهقين أغبياء يشوهون منهج وعقيدة دولة الإسلام. والله إن الدولة بريئة منهم ومن كل شخص يكفر المسلمين».
الدولاوية وأتمتة «العلوم الشرعية»
تقف معرفة الدولاوية بالإسلام عند حدود كلمات قادة التنظيم التي يشيرون إليها في إحالاتهم واستشهاداتهم، كما في كلامٍ للأساورتي يقول فيه «لا تنصر الدولة بالكذب الرخيص... قال الشيخ أبو عمر البغدادي: والكذب وحيٌ شيطانيٌّ رخيص!». بالإضافة إلى إلمامهم بالبوسترات والإنفوغرافات التي يجهد إعلاميو التنظيم لتبسيط المعارف الإسلامية فيها بانتقائيةٍ واضحة، مركزين على ما يدعم توجهاته من المرويات والآراء التي يعتمد عليها لدعم شرعيته وقوانينه. يدرج كل ذلك تحت عنوانٍ فضفاضٍ هو «ما لا يسع المسلم جهله»، وتدخل فيه العقائد والعبادات والمعاملات. ويعدّ التنظيم أهم تلك الأمور الإيمان والولاء والبراء، بحسب رؤية ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب، إلى جانب الحضّ على الجهاد وحجاب المرأة والزكاة. وقد عبّر عن ذلك أحد الدولاوية بحصره العلم الشرعيّ بمكتبة الهمة التابعة للتنظيم، المتخصّصة في نشر الجداريات والمطويات والمرئيات والإعلانات الدعوية، وبمجلة النبأ التي تنشر نشاطاته. وقد دفع كل ذلك سلفياً جهادياً مناصراً للتنظيم، هو أبو الهيجاء النجدي، إلى القول إن «دولة الخلافة ليست دليلاً على مشروعية المسائل الشرعية، الدليل هو القرآن والسنة ثم الإجماع والقياس».
لكن ذلك لم يمنع من عودة بعض السلفيين الجهاديين إلى التنظيم كمرجعيةٍ في مسائل حساسةٍ لاقت الكثير من الاستهجان، حتى وصل الشك إلى المناصرين أنفسهم. ويأتي حرق البشر أحياء على رأس المسائل التي أثارت الجدل إثر حرق الطيار الأردنيّ معاذ الكساسبة. فبعد أن عرض النجدي ذاته الأحاديث التي تحرم الحرق والحوادث التاريخية التي استعمل فيها، أشار إلى أن الإصدارات تمرّ من خلال شرعيّي التنظيم قبل أن تخرج إلى العلن. وقد اضطرت «هيئة البحوث والإفتاء»، التابعة للتنظيم، أن تنشر أخيراً فتوى تجيز التحريق، تداولتها الكثير من الحسابات لأيام.
العقلية
الدولاوية خليطٌ غير متجانسٍ من المناصرين، لأسبابٍ تبدأ من الإيمان الشخصيّ ولا تنتهي بإغاظة الخصوم وتخويفهم. على أن الحماسة المفرطة قاسمٌ مشتركٌ بينهم كشف عن نفسه في مناسباتٍ مختلفة، عبر ردود أفعالٍ شخصيةٍ متسرّعة، قبل أن يوضح السلفيون الجهاديون المناصرون «موقف الإسلام» أو موقفهم منها. كما ظهرت تلك المشتركات في ردود الدولاوية على السلفيين الجهاديين وسواهم. ويستطيع المتابع وسط هذه الفوضى تلمّس عقليةٍ خاصةٍ أكثر فاعليةً من كونها مجرّد دافعٍ دينيٍّ محتمل، تظهر خصوصاً في التعامل مع قضايا تخصّ «المرأة» و«شخصية القائد».
وكمثالٍ على الموضوع الأول تداول الدولاوية رسالةً ادعوا أنها من امرأةٍ في حلب، تطلب فتوى تبيح لها الانتحار خوفاً من الاغتصاب، عندما كانت قوات النظام تشن حملتها الأخيرة على الأحياء الشرقية للمدينة قبل خروج الفصائل منها. وردّ مناصرون على الرسالة بالتحريض على الانتحار، رغم أن سلفيين كانت لهم مواقف مخالفة استناداً إلى فتاوى نشروها، لكن ذلك ظل ذا تأثيرٍ محدودٍ في جوٍّ عامٍّ يحاول نفي المرأة أبعد، ويحرّم حتى مناصرتها للتنظيم، استناداً إلى كلامٍ لمنظّره تركي البنعلي: «النساء لا مناصرة لهن».
أما في الموضوع الثاني ففي محاولةٍ لقراءة سبب سقوط منبج غرّد أحد المناصرين أنه «عندما تسيطر على الشخص القياديّ المحنك عملية الانتقام من مارع: كان العدناني يصب جام غضبه على مارع، ولا يرى غير اجتياحها بتفريغ القرى المحيطة بمنبج لذلك». لكن الدولاوية شنوا هجوماً منقطع النظير على المغرّد، في وقتٍ استعملوا فيه صورة العدناني بعد موته كأيقونة، حتى علّق أحدهم أن ذلك «تشبه بالنصارى في تمجيدهم للمسيح».
يمور الإعلام المناصر بالخلافات والتناقض حول كافة المستجدات، كما تصطدم آراء المناصرين كثيراً بالمواقف التي يعلنها التنظيم في ما بعد حول بعض الوقائع والإشكاليات. ويتخذ الدولاوية الآراء التي تروج بينهم كفتوى تعبّر عن توجه التنظيم، في ظل سكوته عن الكثير من القضايا من جهة، وحاجة تابعيه إلى مرشدٍ من جهةٍ أخرى، حتى يمكن تشبيه أثر التنظيم على أتباعه في هذا المجال بولاية الفقيه.