- Home
- Articles
- Radar
(خرجية) الأطفال في سوريا.. أكثر من المال
تشتهر الخرجية (مصروف الجيب اليومي) بين الأطفال السوريين وذويهم على نطاق واسع. يختص هذا النوع من أعطيات الوالدين بتلاميذ المدارس ضمن المرحلة الابتدائية بشكل أساسي، لكن ذلك لا يمنع من امتدادها إلى نهاية مرحلة المراهقة ولدى شرائح أخرى مختلفة. ونتيجة لتناقلها جيلاً عن جيل، يستخدم السوريون الخرجية كوسيلة للتحقيب الزمني إذ تعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
قبيل الثورة كان متوسط الخرجية يبلغ 15 ليرة سورية، وكان بإمكان الطفل شراء عبوة كولا سعة ثلث لتر بها، أو كيس شيبسي متوسط الحجم. وبينما كان يبلغ الحد الأدنى للأجور أكثر من 6000 ليرة بقليل، كانت الخرجية لا تشكل أكثر من 25’0 بالمئة، ما يعني أن راتب الموظف يمكن أن يسدد قيمة 400 خرجية متوسطة.
في العام 2022، وفي ظل تدهور قيمة الليرة السورية، يبلغ وسطي الخرجية قرابة 1000 ليرة سورية، لا تخول الطفل أكثر من شراء كيس شيبسي صغير، أو قطعة بسكويت من فئة حلوى الأطفال منخفصة الثمن. في المقابل يبلغ الحد الأدنى للأجور 91 ألف ليرة، ما يجعله كافياً فقط لدفع 91 خرجية وفق منظورها الحالي، و60 خرجية بأحسن الأحوال من منظورها السابق قبيل العام 2011.
مع أن الخرجية لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً من الخدمات الأسرية التي تقدمها مؤسسة العائلة برحابة صدر، إلا أنها تشكل أهمية كبيرة اجتماعياً بالنسبة إلى الطفل، وتؤثر على ثقته بنفسه وطريقة تعاطيه مع الأقران ووجهة نظره بالحياة.
فالطفل الذي لا تتجاوز خرجيته 200 ليرة (يحصل من خلالها على حلوى صغيرة الحجم)، يمكن أن ينظر بعيون متعددة إلى نظيره الذي يمتلك في جيبه 1000 ليرة (كيس شيبسي أو عبوة كولا). فهو قد يشعر بدرجة من الحرمان تجعله يحقد أو يغار من زميله الدراسي، وبتفاوت المرتبة الاجتماعية تبعاً لتفاوت قيمة الخرجية، وبتقصير الأهل الذين غالباً ما تمنعهم أوضاعهم المعيشية الصعبة من منح مبالغ أكبر للطفل فضلاً عن المواظبة على إعطائه خرجية مستمرة.
هناك بعد اجتماعي للخرجية يمكن دراسته من منطلق "ماذا تقول قيمة الخرجية عن أهالي الأطفال بمدرسة محددة؟ وهل يمكن أن نقسم المجتمع طبقياً تبعاً لحجم خرجية كل طفل؟"
في إحدى مدارس دمشق، وهي مدرسة ابتدائية عامة تديرها حكومة النظام، يتفاوت مبلغ الخرجية بين تلميذ وآخر تبعاً لتفاوت حجم الدخل بين أسر التلاميذ. تتراوح العينات عن الخرجية التي سألت عين المدينة ذوي التلاميذ في المدرسة عنها بين 200 ليرة وحتى 1500 ليرة.
وفي ندوة المدرسة المكان مخصص لبيع البسكويت والشيبسي وحلوى الأطفال، يزدحم حاملو الخرجيات أمام البائع خلال استراحة التلاميذ بين الحصص الدراسية، وعندها فأقل خرجية لا تشتري سوى قطعة سكر (مصاص)، وأكثرها تشتري واحداً من الأطعمة أو المشروبات التالية: قطعة كيك، كيس شيبسي، عبوة كولا، كيس إندومي.
يمكن ملاحظة الطبقتين الفقيرة وبقايا الوسطى في المدارس العامة، بينما يندر وجود تلاميذ الطبقة الغنية فيها، إذ تحتضنهم المدارس الخاصة المتكاثرة خلال السنوات الأخيرة بدفع من هجرة مدرسي القطاع العام نحو الخاص، ورغبة الأسر الغنية وطبقة الموسرين الجدد المشكلة من أمراء الحرب وأعوانهم في تدريس أطفالهم دراسة "نموذجية"، الأمر الذي لا يتوفر إلا في أماكن بعيدة تماماً عن خدمات الدولة العامة وأماكن الطبقات الفقيرة. لم تستطع عين المدينة الوصول إلى تلك الأماكن، لكن العديد من سكان دمشق الذين تحدثت إليهم قالوا بأن الخرجية فيها تصل إلى ضعفها في المدارس العامة فما فوق.
يعتمد السوريون على الخرجية كأحد المعايير المستعملة في التحقيب، ويستذكرون من خلالها مراحل طفولتهم وأفراحهم في المناسبات كالأعياد، والمشتريات التي كانت الخرجية تمنحها لهم. كما تتم عادة مقارنة القوة الشرائية للخرجية بنظيرتها في الوقت الحاضر بهدف تعريف الجيل الناشئ على فترة زمنية عاشها الآباء أو الأجداد، والسقوط الكبير لقيمة النقود وغياب "البركة". ومن الطريف هنا ما يتم تداوله مثلاً حول فترة الستينات التي كانت الخرجية فيها لا تتجاوز قروشاً نحاسية مثقوبة انقرضت بعد عقود قليلة، أو في الثمانينات حيث كان الطفل ذو الحظ السعيد هو الذي يحصل على خرجية تصل إلى ربع ليرة (25 قرشاً). وكانت هذه الخرجية تشتري مأكولات كثيرة من أطعمة الأطفال في تلك الأيام.
يفتح حديث الخرجية باب الذكريات للنظر إلى نوعية أطعمة الأطفال في فترات سابقة من التاريخ السوري، وهي ما يتعارف عليه اليوم ب"الأكلات الطيبة". في كتابه "حديث دمشقي" يشير المحامي نجاة قصاب حسن إلى أن خرجيته في ثلاثينات القرن الماضي والتي كانت تبلغ فرنك واحد كانت تخوله شراء أوقية (200 غرام) لحم مشوية مع بقاء قرش من الخرجية. بينما تبدل الحال في العقود التالية فمواليد الستينات مثلاً كانوا يحصلون على فرنكين تمكنهم من شراء كازوزة أو قطعتين من حلاوة السميد أو دبوس الولد (قطعة تفاح سكري تغطس في القطر المغلي).
مواليد التسعينات لا يكادون يتذكرون الليرة الورقية التي كانت خرجية جيدة لمواليد الثمانينات، أما مع بداية القرن الحالي فكانت ال5 ليرات تتربع على رأس خرجيات الأطفال وتشتري عبوة كولا أو كيس شيبسي مصنوع من البطاطا الطبيعية أو كيسين من شيبسي الذرة. تبدل الوضع قبيل العام 2011 فتضاعف حجم الخرجية مع نفس قيمة المشتريات.