الاختلاف من طبائـع البشر، لا شك في ذلك. ويكون أوضح وأظهر في حالات الاضطراب، عندما تتراجع التوافقات الهادئة عن مقدمة المشهد، لتتصدّر بدلاً عنها الانحيازات الأولية النابعة من طبائع التكوين الشخصي أو هويّة التجمعات الإنسانية الضيقة، وكذلك المصالح المباشرة في ظروف الخوف والطمع، عندما يُزلزل الناس عن منازلهم ونمط حياتهم المعهود إلى مجهولٍ مقلق.
وإذا أضيف إلى المعطيات العامة السابقة ما يقال عن «خصوصيةٍ» سوريةٍ في إعجاب كلّ ذي رأيٍ برأيه ـ ولو لم يكن من أصحاب الرأي أساساً ـ وصعوبة انقيادٍ خارج مفهومي الترغيب والترهيب، ناهيك عن كثرة الأطراف التي تدخلت في إحداثيات المسألة السورية، ولكلٍّ منها فهمه لها وبرنامجه الخاصّ لحلها؛ أمكن أن نفهم مقدار الفوضى الهائل الذي بات يتقاذفنا، في زحمة الآراء والتوجهات والأجندات الشخصية والعامة.
ولكن، لنهوّن على أنفسنا قليلاً، فهذا من الطبائع الثابتة للثورات أساساً، مهما تعددت تعريفاتها وأشكالها. وإذا بدت ثورةٌ ما موحّدةً ومتماسكة فيبدو أن سبب ذلك أنها لم تبلغ مداها المزلزل بعد، بل هي تتناوله على جرعات. إذ لا بدّ من إتمام شرب الدواء المرّ حتى النهاية، كما تخبرنا تجارب تونس ومصر وليبيا، وقد مرّت أوقاتٌ ظننا فيها أن ثوراتها قد استقرّت على قلب رجلٍ واحدٍ أو تكاد أن تستقرّ.
غير أن طبائع الأمور، أو السنن الكونية بتعبير بعض الكتاب الإسلاميين، لا تعفي الأفراد والتجمعات، الواقعين تحت تأثير مخطط مسيرها العام، من الفعل، ولا تسقط عنهم مسؤولية أداء واجباتهم ضمن إطار هذه السنّة، أو اللجوء إلى سنّةٍ أخرى من سنن الكون، تكفل لهم صلاح أمرهم وتقدّمه. ولعل من ألزم ما نحتاجه في هذا الباب أن نتعلم كيف ندير اختلافنا بشكلٍ لا يتحوّل فيه إلى التنازع المذموم، الذي يعقبه الفشل وذهاب القوّة.
هل هو مستحيلٌ أن ننحي حظوظ أنفسنا قليلاً ونسعى لفهم الآخرين من إخوتنا في الثورة؟
ألا يمكن أن يعـــــي المقاتــــــل دور وأهمية ومبرّرات الناشط المدنيّ، الذي كان أول من أشعل الثورة، عندما كان كثيرٌ من مقاتلي اليوم متوجّسين أو غير مبالين؟ وأن العمل الإعلاميّ – ولو على صفحة فايسبوك ـ هو خيارٌ له مسوّغاته الشخصية والعامة، ضمن إطار الاســـتطاعة الشخصية لكلّ فرد، وأنه لا يعني دوماً «الخنوثة» والإخلاد إلى العيش السهل؟ وبالمقابل، ألا يمكن أن يكفّ بعض الناشطين عن ترديد الاتهام بـ«سرقة الثورة» وحرفها عن مسارها، وكأن لها بالفعل مساراً طبيعياً صلباً لا تحيد عنه، بينما هي – كما تعلمنا علوم السياسة والاجتماع – سيرورةٌ تقذف فيها الشعوب بكل ما في نواتها الحارقة الموّارة من حمم؟
هل من الصعب أن نتذكر أنه في كل ثورة، بل في كلّ نشاطٍ عام، سيبرز المتشدّد والمتســـاهل، حتى صارت كلمتا الصقور والحمائم من مفردات التحليل السياسي، وأن من الناس من سيتعب ويوافق على هدناتٍ موضعيةٍ هنا وهناك، ومنهم من سيتحمّل أكثر ويصمد؟ أم أننا مصرّون على أن نتهم الأول بالخيانة تارةً، أو نتهم الثاني بالحمق وغلبة الحماس تارةً أخرى؟
فلنلتمس لإخوتنا الأعذار؛ فمنهم من يرى أن أولوية وقف ســــفك الدماء وإغاثة المناطق المحاصــــرة تتقدّم على ما سواها في طريق صراعنا الذي بات طويلاً. وهؤلاء ليسوا خونةً أو متخاذلين أو عملاء وأصحـــــاب أجندات – في غالب الأمر – بل أصحاب رأيٍّ واجتهاد يجدر بصدورنا الضيقة أن تتقبله. أما أصحاب الأجندات الســاعية إلى إجهاض الثورة فهم معروفون، ولا يحتاج الأمر لتذاكينا الاستخباراتي المراهق الذي يوسّع دائرة الاتهام حتى تشمل أقرب رفاقنا في الثورة أو حتى في الخندق، فلدينا من الأعداء ما يكفي.
ومن جهةٍ أخرى، على من يرى سلوك الأساليب السياسية والحفاظ على من تبقى من العباد أن لا يخذّل إخوانه ممن يقاتلون على جبهاتهــــــم برغم شحّ الذخيرة ونقص المدد، بل أن يكون لهم عوناً وسنداً، فلولا ما أنجـــــزوه ما كان لعصابة المجرمين أن تعترف بمــــعارضة،
ولا أن تقبل أن يكون لها ندٌّ في المحافل الدوليــــة. فثغورنا كثيرة، بل كثـــيرةٌ جداً، وليســـدّ كلٌّ منا ما استطاع منها، فإن فــي ذلك ما يشـغله عــــن الاتــهـــام والانتقاد المجانيّ.