يوم في كيليس على وقع القذائف

متداولة على الانترنت

على جانبي شارع أكرم شاتين في مدينة كيليس التركية أغلقت المحلات السورية أبوابها باكراً على صوت القذائف، بعد أن فرض السوريون إيقاعهم في السابق، لتحويل المدينة التي كانت تنام باكراً إلى ما يشبه حلب، المدينة التي لا تنام. تحولت صفحات التواصل الاجتماعي هناك إلى ما يشبه التنسيقيات في بداية الثورة لتتحدث عن أماكن سقوط القذيفة، والأضرار التي ألحقتها، وكعادتنا «جميعنا كان بالقرب من المكان، ورأى بأم عينيه ما حدث، وأن القذيفة سقطت بالقرب منه ولكنه لم يمت»؛ ليختلف الناس حول عدد الضحايا، ومكان وقوع القذيفة، وليكتفي كثير منهم بالدعاء والتلطف والحوقلة، والبحث عن أماكن أكثر أمناً في باقي الولايات التركية.

عشرات الاتصالات تلقاها أبو علي من أهله وأصدقائه في جبل الزاوية للاطمئنان عن حاله، بعد كل قذيفة. كان يضحك كلما تلقى رسالة على الواتس آب ليجيبهم «هي الأيام قدرت نام منيح، من وقت جيت لهون ما نمت مرتاح»، صوت قذيفة جديدة طن في أذنيه. أصغى جيداً، ثم أشار بيد عاجزة «كنت أعرف نوع القذيفة من وقت تطلع، ذاكرتي ماتت، سبحان مغير الأحوال». سُمع صوت انفجار قريب، صوت سيارات الإسعاف ملأ المكان خلال دقيقة، ليعلق أبو علي «صار لازمنا قبضة».

عاد أبو علي صاحب محل العصافير إلى لعب «ورق الشدة» مع أصدقائه، متجاهلاً صوت قذيفة جديدة لم يعلق عليها هذه المرة. دقائق من الصخب مرت نتيجة خلاف في اللعب. رمى أبو علي الورق ليعترف بخوفه أمام الجميع «لا تزعلوا مني يا شباب، عبهرب حتى ما ضل فكر بالموت»، صمت الرجال الخمسة، شق صمتهم صوت أبي احمد «كنا قد اعتدنا على فكرة الموت، هناك لم يكن لدينا وقت، كل شيء كان يحدث على عجل، الطعام والنوم والقتال والغناء والصلاة، النزوح غير الفكرة تماما لصالح الحياة، بتنا نحلم ونخاف»، هز الجميع رأسه بالموافقة، لا شعورياً رفع  أسعد كاس الشاي إلى الأعلى بعد ان انتهى من شربه ليقول «بالنصر».

خرجت الحارة بأكملها على صوت قطعة حديدية سقطت من سطح أحد المنازل. النساء كانت تنظر من خلف ستائر النوافذ. الرجال أرادوا حفظ ماء وجههم بالسخرية «كأنك خفت، اش مطالعك بهالليل، يا حيف»، بعضهم قال بأن «نازحي كلس موديل 2012، هربوا من أول طلقة بسوريا». آخرون رأوا أن هذا الأمر تم بفعل فاعل وأن ما حدث معيب، فهناك في البيت نساء وأطفال. أما جاري سعيد فقد وجد أمامه كيساً من القمامة حمله بيده  ليقول «كنت رايح كب الزبالة، اشبكن ليش مجتمعين اش صار».

 لم يدفعني الفضول (أنا الذي بت أكتب في الصحافة منذ قدومي إلى كيليس) للوصول إلى مكان القذائف، كنت أمر بها  على صفحات أصدقائي دون التوقف عندها، جهلي باللغة التركية كان يخيفني ربما، والأكيد أني أردت الاحتفاظ بالمشاهد العالقة في نفسي منذ غادرت حلب. بعد كل قذيفة كنا نجتمع حولها، نحمل ما نستطيع من أشلاء، نساعد من بقي على قيد الحياة، ثم نعانق بعضنا لندخل في نوبة بكاء طويلة. يرمي لنا أحدهم بسيجارة نلتقطها مع أنفاسنا، ونجتمع من جديد حول ماكينة الإكسبريس. هذه المرة لن يكون هناك من أعانقه.

لم تخف ابنتي من صوت القذائف، لم تعي ابنة الثلاث سنوات ما يحدث في الخارج، هي التي وُلدت على أصوات الطائرات الحربية والبراميل المتفجرة، خفت أن تسألني عن الصوت، وجهزت نفسي لاختلاق قصة مقنعة.

في الصباح كان الناس يمشون على عجل، الحدائق شبه فارغة، والناس تمشي بجانب بالأبنية  لتحتمي بها من قذيفة عمياء، على باب الهجرة تجمع مئات الأشخاص للحصول على «إذن سفر»، بدا الجرح عميقاً جداً، صوت الطائرات فوقنا، مع يقيننا بأننا لسنا الهدف هذه المرة، كان يعبث بمفاصلنا، «لولا الحياء لاستلقينا على الأرض»، الجميع كان خائفاً يختفي خلف بطولات زائفة، ونكات يطلقها كيفما اتفق عن رخص العقارات بعد أن خلت المدينة من سكانها، والقذائف التي لم تنفجر، ويختلقون أحاديثاً واقاويل عن أيام المعركة التي لن تطول.