فـــي العاصـــــمة تبدو خلاصــة أســـــاليب النظام في التعامل مع الثورة، مركّزةً وصافية، في حين تظهر أجزاءٌ من هذه الأساليب هنا وهناك على الأراضي السوريّة، بحسب ظروف كلّ مدينةٍ أو بلدة. ومن هنا فإن قراءة أدائه في دمشق يمكن أن تقود إلى تحليلٍ متكاملٍ لما يفكّر فيه وما يطمح في الوصول إليه، بحسب النهايــــة التـــــي يأمــــــل.
فمن جهةٍ أولى، يجمع النظام في دمشق بين تناقضين غريبين، كالعادة، أوّلهما ادّعاء استمرار الحياة الطبيعية ضمن الخطاب الوطني الجامع لسورية الموحّدة تحت سلطته، وهو يبذل قصارى جهده ثمناً لهذا الإيهام، سواءً عبر وسائل إعلامه أو عبر تقديم كلّ شيءٍ في سبيل استمرار الخدمات
وتأمين السلع ومحاربة غلائها بفعل انهيار الليرة السوريّة. وثاني هذين التناقضين أن النظام لم يستطع أن يخفي وجهه الطائفيّ، إذ لم يجد بين أبناء هذه المدينة ما يكفي من المتطوّعين لاستخدامه ضمن تشكيلات «جيش الدفاع الوطنيّ» أو «كتائب البعث»، كما جرى في بعض المدن الأخرى، فزجّ بقاعدته من العلويين، القاطنين في أحياءٍ عديدةٍ على أطراف المدينة غالباً، وببعض شيعة المدينة نفسها، في مسيرات تأييده أولاً، حين كانت وسائل النقل العامّة تتولى نقلهم من أحيائهم إلى الساحات العامّة في الأمويين والحجاز وسواها، ثم باستخدامهم في الحواجز التي صار عددها هائلاً، دون تفريقٍ جدّيٍّ بين المنتمي إلى أجهزة الأمن أو الجيش أو الشابّ المدنيّ الذي ارتدى ببســــــــاطةٍ بنطــــــــالاً عسكرياً مموّهـــــاً وتنــــاول بندقيّتـــه ـ التي حصل عليها من النظام بطريقةٍ ما ـ من خزانة البيت ونـــــــزل ليشــــارك الحاجـــــز مهامّــــه، ويدافع عن «الأرض والعرض»، بحسب أغنيةٍ شائعة بين أهل الحواجز.
ومن جهةٍ أخرى، يبدي النظام أشرس أساليب قمعه للحفاظ على العاصمة من خطر محيطها الثائر، بشكلٍ تبدو معه الحواجز مجرّد مضايقةٍ سمجة. فمن المعروف أن أكبر أعداد الشهداء الذين قضوا بالإعدام الميداني كانت في ريف دمشق، كما أنه استخدم دعاوى البناء المخالف لهدم منازل وأحياء ثائرة على طرف العاصمة، وارتكب بعض أبرز مجازره على محيطها، كما في داريّا التي ما زال يجدّد حملاته للسيطرة عليها، واستخدم أساليب التجويع ومصادرة المشتريات الغذائيّة المنزليّة في جنوب دمشق والمعضّميّة والغوطة، التي ارتكب فيها خطيئة الكيماوي التي كادت أن تودي به.
وكما أباح شوارع عاصمته لأبناء طائفته، في استفزازٍ واضحٍ وصريحٍ لأبناء المدينة، مما يعني الإعلان عن تمزّق النسيج الوطني المهلهل أصلاً، فقد أباح أريافها للمقاتلين الشيعة القادمين من لبنان «حزب الله» والعراق «لواء أبو الفضل العبّاس»، الذين أعلنوا دخولهم معارك عديدة قرب دمشق، وتتوارد الأنباء عن استعدادتهم القصوى لمعركة القلمون في ريفها، مما يحيل حديث وسائل إعلام النظام عن السيادة الوطنيّة إلى مجرّد وقاحةٍ عارية.
هكذا هي إذن، كما قال بشّار الأســــد لأحد المقرّبيــن منـــه في الأشــهر الأولى للثورة، عن المتظاهرين: «فليرجع هؤلاء الكلاب إلى بيوتهم، وبعدها أقوم بالإصلاحات التي أراها مناسبة». إنها معركة إخضاعٍ بكلّ الوسائل الممكنة، من قتلٍ وتدميرٍ وتجويع، ثم فليعُدِ السوريون للعيش ضمن الكذبة الكبرى عن الحكم الوطني، المستعدّ للعفو عنهم إذا صدقت توبتهم ورجعوا إلى تقديس البوط العسكري/الطائفي!
تخبرنا دمشق أن كلّ ما قيل عن نيّة النظام بالانسحاب إلى مناطق الساحل وإقامة دويلةٍ علويّة، فيما عُرف بالخطة ب، غير موجودٍ على أرض الواقع، أو أنه ما زال الخطة ب غير الموضوعة قيد التنفيذ. وأن هذيانه يصوّر له أن بإمكانه الاستمرار في حكم البلاد، التي أبدى رأس النظام مؤخراً موافقته الكريمة على الترشّح لرئاستها لدورةٍ ثالثة!
معركة دمشق هي الأهمّ، دون التقليل من حساسيّة أي جبهةٍ أخرى بالنسبة إلى منطقتها وموقعها الخاصّين. فلنتعلم من كلّ أخطائنا السابقة، ولتكن معركةً ذات أفقٍ وطنيّ، بعكس التحشيد الطائفي للنظام، ولنحافظ على بنية الدولة، بخلاف استباحة النظام لها، ولتكن معركةً دون تجاوزاتٍ أثّرت سلباً في مناطق أخرى، أو بالحدّ الأدنى الممكن.
فلنستعدّ للحسم في دمشق، ولو طال زمن الإعداد، فمنها ينهمر الصباحُ.