هنا ذبحوا جاسر، وعلى هذا العمود صلبوه

يشرح مصطفى (البالغ من العمر 17 عاماً) حادثة إعدام جاسر، وهو مقاتلٌ سابقُ في صفوف كتائب الفاروق في مدينة منبج. تطفح ذاكرة مصطفى بمشاهد القتل والتنكيل التي مارسها تنظيم «داعش» في حقّ أهالي منبج طيلة احتلاله للمدينة منذ كانون الثاني عام 2014؛ لكنه كان يتناساها -حسب ما يقول- كلما مرّ قرب حاجزٍ أو مقرٍّ للتنظيم.

جاسر واحدٌ من عشراتٍ قتلهم وصلبهم تنظيم «داعش» في منبج، لكن مصطفى يحتفظ -إضافةً إلى ذكرى هذا الإعدام- بصورةٍ خاصّةٍ استطاع أن يلتقطها خلال تنفيذ الحكم. تمّ إلقاء القبض على الأخوة، جاسر وعدنان وإبراهيم، بُعيد سيطرة «داعش» على المدينة، ليطلق سراحهم بعد شهر. لكن مطلّقة إبراهيم وشت لـ«داعش» بأن الأخوة الثلاثة قاتلوا في صفوف الجيش الحرّ ضد التنظيم في معارك سابقة، متهمةً زوجها السابق، غير المسلح بالأساس، بالانتماء إلى إحدى الكتائب. عانى الأخوة الثلاثة كافة أنواع التعذيب لانتزاع الاعترافات على جرائم قتلٍ لم يقترفوها بالطبع. وخلال سبعة أشهرٍ بعد ذلك، مات جاسر وأخواه تحت التعذيب عدّة مرّاتٍ حسب شائعاتٍ تداولها الناس خفية، إلى أن أصدر قاضي «داعش» حكمه بإعدامهم في مواقع مختلفة وفي التوقيت ذاته: (يُقتل إبراهيم ويصلب عند مدخل مدينة جرابلس، ويُقتل عدنان عند دوار الجزيرة في منبج، أما جاسر فيقتل ويصلب على دوار جرابلس في منبج أيضاً). ولقرب هذا الدوار من منزله، استطاع مصطفى حضور إعدام جاسر. «سمعنا أنه اليوم بعد صلاة العصر يعدمون عنصر جيش حر، وعالأغلب يكون جاسر العوني»، يقول مصطفى متذكراً ذلك اليوم، حين تجمع الناس عند الدوار ينتظرون سيارات «داعش» التي لم تتأخر، لينزل منها جاسر يقوده أربعة عناصر بسبب ضخامة جسمه. وعلى غير العادة لم يتلُ قاضي «داعش» الحكم أمام الناس، لأن أخباراً ترددت بأن أهل جاسر وعشيرته سيحولون دون تنفيذ الحكم. ربما سمع جاسر بهذه الأخبار من بعض الأصوات التي تعالت من بين الجمهور، حسب ما يفسر مصطفى محاولة جاسر الإفلات من الموت، حين تمكن من فك الحبال عن جسمه ثم الهجوم على عناصر «داعش» حوله والعراك معهم بالأيدي، قبل أن يطلق أحد «الدواعش» الرصاص على قدميه فيقع أرضاً، ثم يُحمل إلى أقرب عمودٍ إسمنتيٍّ ويوثق من جديد، وهو يصرخ ببراءته. وبسرعةٍ، ودون أن تربط عصابة على عينيه، أطلقت رصاصتان من بندقيةٍ على رأسه.

مات جاسر، وظل عددٌ من عناصر «داعش» يحرسون جثته. حاول أهله وأقاربه أخذ الجثة وخاضوا شجاراتٍ كلاميةً مع هؤلاء العناصر، قبل أن يعتقلوا جميعهم، وظل مصطفى وابن عمٍّ لجاسر يراقبان الجثة عن بعد. حسب تقاليد «داعش» تظل جثة المحكوم معروضةً للمارّة ثلاثة أيام، وربما نقلت خلال هذه المدة من مكانٍ إلى آخر لإرهاب أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس ولتعميم عبرتها الوحشية، ولمزيدٍ من التنكيل بضحاياها وأهلهم أيضاً. يقول مصطفى: «الفجر، بعد ثلاث أيام من الإعدام، جابوا تركتور وتريلا تبع زبالة وشالوا جثة جاسر بيها». لحقناهم لنعلم أين تدفن الجثة أو ترمى لكي نعيد دفنها بشكلٍ لائق. لكنهم، وبعد مسافةٍ على الطريق خارج المدينة، اكتشفوا أمرنا واعتقلونا لمدة شهرٍ ونصفٍ بتهمة التعقب والمراقبة.

اليوم، وبعد أن طُردت «داعش» من منبج، يظل البحث عن جثة جاسر وأخوته، وعشراتٍ آخرين ممن قتلتهم «داعش»، هاجساً للأهالي. ويظل تتبع أخبار المعتقلين في سجون التنظيم، من سجنٍ إلى آخر ومن مدينةٍ إلى أخرى، هاجساً أيضاً لذويهم المعذبين بأنباء متضاربةٍ حول مصيرهم.

خلال عامين ونصفٍ من احتلال منبج، شكلت ساحات المدينة مسرحاً مفضلاً للتنظيم لتنفيذ أحكام الإعدام. وأسهمت الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها التنظيم من هذه الساحات في تشكيل الانطباع المرعب عنه. يقول مصطفى: «ذبحوا كثير بالسر وبالعلن، وما ظل بيت بمنبج تقريباً ما آذته داعش».