لم تهدأ عاصفة التقارير الإعلامية والاستخباراتية التي تحدثت عن تحرّكاتٍ عسكريةٍ روسيةٍ في مطار حميميم (باسل الأسد) جنوب اللاذقية؛ بل زادت بعد تصريحات وزير الخارجية الروسيّ التي قطع بها الشكوك التي دارت حول هذه الأنباء، فقد أكد سيرغي لافروف تقديم المساعدة العسكرية لنظام الأسد وما أسماه "السعي لتجهيز الجيش السوري بكل ما يلزم لمنع تكرار السيناريو الليبيّ في سوريا". في حين أشارت التقارير الاستخباراتية الغربية إلى رصد إنزال القوّات الروسية لسبع دبابات ت90 وقطع مدفعية في المطار، كما أفادت وكالة رويترز عن وصول 200 جنديٍّ من القوّات البحرية الروسية إلى الساحل السوريّ، في وقتٍ يدور الحديث فيه عن استعداد القوات الروسية لنقل غرفٍ سكنيةٍ تتسع لـ1500 عسكريٍّ وضابطٍ، كخطوةٍ تسبق تحويل مطار طرطوس الزراعيّ إلى قاعدة تحكّم لإدارة العمليات الجوّية في المرحلة القادمة.
تطرح هذه التطوّرات جملةً من التساؤلات حول حقيقة هذا التدخل وجديته وأهدافه، وما إذا كانت موسكو قد اتخذت قراراً فعلياً بالدفاع عن الأسد عسكرياً، بعد أن اقتصر دورها في السنوات الخمس الماضية على تقديم الغطاء السياسيّ واللوجستيّ له، أم أنّ للخطوة أبعاداً أخرى؟
تغيّر الحسابات الدولية
قبل شهرين من الآن، أجرى المسؤولون الروس سلسلةً طويلةً من المباحثات الديبلوماسية مع زعماء عرب ومسؤولين إيرانيين وغربيين كبارٍ ووفودٍ من المعارضة السورية تحت يافطة البحث عن "مخرجٍ سياسيٍّ للأزمة السورية". لكن لم تتمخض عن ذلك أيّ نتائج تصبّ في صالح توجّه موسكو "السياسيّ"، الذي يوافق توجّهات النظام بطبيعة الحال. وربما كان الاستنتاج الروسيّ من ذلك أن لا أحد مقتنعاً أو قادراً على مجاراة تصوّر موسكو للحلّ. في وقتٍ تميل الكفة فيه دائماً ضد خيار بقاء النظام. وأثناء ذلك تصاعد الحديث في المعسكر الغربيّ عن إنشاء المنطقة العازلة في الشمال السوريّ بإشرافٍ تركيٍّ، بما يتضمنه ذلك من فرض حظرٍ جويٍّ على طائرات الأسد في تلك المناطق. وبناءً على ذلك، يشير العديد من المراقبين إلى أنّ التحرك الروسيّ، الذي لم يُعرف مداه بعد، جاء نتيجة رغبةٍ في إرباك الحسابات الغربية، وأميركا خصوصاً، في حال وجود أيّ خياراتٍ للتدخل ولو بطرقٍ غير مباشرة. إذ إنّ أيّ تدخلٍ غير متفقٍ عليه مع روسيا، التي أصبحت الآن قوّة أمرٍ واقعٍ بعددٍ قليلٍ من الجنود وقاعدةٍ عسكريةٍ يُزعم إنشاؤها؛ قد يؤدّي إلى تصعيدٍ خطيرٍ في العلاقات الدولية، ما يمنح موسكو ورقةً إضافيةً للتفاوض والضغط على القوى الغربية في الملفات الشائكة الأخرى، كالعقوبات الاقتصادية وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم. أما في الملف السوريّ فقد يسعى الروس إلى فرض رؤيتهم للحلّ بشكلٍ مباشرٍ من خلال إجراء تعديلاتٍ شكليةٍ على النظام، بإشراك معارضين صوريين في حكومة الأسد وتقديم ذلك للدول الإقليمية والغربية على أنه إصلاحٌ تمّ بالفعل. وفي حال لم يقتنع أحدٌ من القوى الدولية المعنية بذلك فستبقى لروسيا حصّةٌ في التفاوض على مستقبل سوريا، وفق تصوّرٍ لم يدرِك بعد أن ما يحدث في هذا البلد أكبر من لعبةِ مصالحٍ وسياسات.
المخطّط الروسيّ أمام الفشل
تعدّ جملة "الحفاظ على مؤسّسات الدولة السورية" أكثر العبارات التي يتفوّه بها المسؤلون الروس في مباحثاتهم مع نظرائهم الغربيين والعرب وفي مؤتمراتهم الصحفية التي تخصّ الشأن السوريّ. وإذ يمثل التصعيد الروسيّ محاولة استنساخٍ لتجربة شبه جزيرة القرم الأوكرانية؛ فإن هؤلاء المسؤولين يعرفون، بحساباتٍ بديهيةٍ، أنّ تدخلاً عسكرياً واسعاً لقوّاتهم على الأرض سيودي بأصحابه إلى المحرقة. لذا تميل التحليلات إلى فرضية اكتفاء الروس بإنشاء قاعدةٍ عسكريةٍ في الساحل، وتقديم المزيد من الدعم العسكريّ للأسد، أملاً بتقويم وضعه والحفاظ على منطقة الساحل. لكن الوضع الميدانيّ للنظام لا يبدو مؤهلاً لامتلاك زمام المبادرة؛ خاصّةً بعد توالي هزائمه العسكرية وتحوّل قوّاته إلى مجموعاتٍ ميليشياوية متباينة الكفاءة والفعالية، ومتناحرة في أحيانٍ كثيرة، تدافع عن مناطق معينةٍ، وتعجز، مع أقوى حلفائها من الميليشيات الطائفية الأخرى، عن استرداد أيّ مواقع تخسرها. وهذا ما حدث في إدلب وريف حماة ومطار أبو الضهور مؤخراً، تزامناً مع صمود الزبداني لأكثر من شهرين، وتقدّم الفصائل الثورية في ريف اللاذقية، وما تمّ تحقيقه حول العاصمة دمشق في أكثر المناطق تحصيناً وأهمية للنظام. كلّ هذا دون أن نتحدث عن ردود أفعال الدول الإقليمية التي لا تربطها علاقةٌ ودودةٌ مع نظام بشار وحلفائه على هذه الخطوة الروسية، قد تكشف عنها الأيام القليلة القادمة.
لم تفلح تجارب قريبةٌ، خاضتها دولٌ أكثر تأهيلاً من النواحي الاقتصادية والعسكرية من روسيا البوتينية؛ في فرض مشيئتها على شعوبٍ ودولٍ تمرّ بمرحلة تغيّرٍ تاريخيٍّ بهذا العمق والجذرية والتعقيد.