نظرة إلى الريف الشمالي لحلب

الراعي - رويترز

ما أنتجته التدخلات الدولية والإقليمية بعد العسكرة في سورية مؤلم جداً، ولكنه واقع يترسخ لفترة قد تطول. أصبحت البلاد مناطق نفوذ وصراع مصالح، فشمال حلب موزع بين الفصائل العسكرية المعتدلة التي تدعمها تركيا و«قوات سورية الديمقراطية» المدعومة أميركياً بالأساس، والتي تستثمر في علاقاتها مع روسيا وإيران والنظام.

يمتد ريف حلب الشمالي من اعزاز غرباً إلى جرابلس شرقاً، بعمق متغير يضيق بجوار اعزاز لكيلومترات لكنه يمتد في الوسط حتى يصل جنوباً إلى مدينة الباب التي تمت استعادتها من داعش في الربيع الماضي.

أول ما تلاحظه، عند عبور الحدود نحو سورية، هو كثرة المخيمات المجاورة للمنطقة الحدودية وعلى امتداد يتجاوز العشرة كيلومترات، حيث ازدحام الخيم والعربات المتنقلة (الكرفانات) في ظروف شديدة القسوة، صيفاً من لهيب الحر وشتاء من البرودة والأمطار، وشح المعونات التي تقتصر على المياه المجانية القليلة والخبز وسلة من المساعدات الغذائية توزع كل شهر. أما التعليم فيها فأكثر بؤساً، إذ المدرسة خيمة أو مجموعة خيام متلاصقة، وهو يقتصر إلى حد كبير على التعليم الأساسي، فيما ينحسر عدد طلاب الثانوية تدريجياً لسببين: حاجة الأهل إلى عمل الشباب، وإغراء السلاح والسلطة لهؤلاء. يتم في المدارس فصل الذكور عن الإناث، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعلمين. ومؤخراً صار الإشراف على التعليم تركياً (من ناحية دفع الرواتب). أما الجامعات فهناك «جامعة حلب في المناطق المحررة» والتي تشرف عليها الحكومة السورية المؤقتة بإمكانياتها البسيطة، ورغم ذلك تتضمن 19 كلية و10 معاهد، ولا يقتصر وجودها على محافظة حلب بل يمتد إلى إدلب وأرياف دمشق وحمص وحماة واللاذقية. وهناك أيضاً «جامعة الشام العالمية» بكلياتها الأربع: الهندسة، والشريعة والقانون، والإدارة والاقتصاد، والعلوم السياسية. وهي مدعومة من منظمة IHH التركية. وتوجهاتها إسلامية، إذ لا تسمح بتسجيل الطالبات مع الطلاب، وهناك حديث بأنه سيتم افتتاح قاعات للإناث في العام القادم.

المشهد الثاني الذي يرافقك هو انتشار السلاح وتعدد مرجعياته، على الرغم من بدايات تأسيس جهاز الشرطة الحرة الذي تشرف عليه تركيا، ويعلّق الناس عليه الكثير من الأمل في أن يكون الجسم الموحد الذي يحفظ أمنهم وسلامتهم. لكنه ما زال في مراحله الأولى، ولا يمكنه منع أو توقيف حاملي السلاح غير النظامي الذي يسبب مشاكل كثيرة، ومنها حالات وفيات برصاص طائش. فكثيراً ما تسمع بين الخيام إطلاق الرصاص فرحاً أو غضباً، وبالطبع يصبح احتمال وقوع ضحايا أمراً وارداً.

لم تغب النزعة الفصائلية عن العسكريين، رغم عدم وجود معارك حالية في المنطقة إلا ما يتم الحديث عنه من معركة مقبلة مع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي، والتي، إن حدثت، لن يكون لهم من قرارها أي نصيب بالتأكيد. مؤخراً أشرفت هذه الفصائل، وتحديداً الجبهة الشامية، على حركة السوريين ذهاباً وإياباً من معبر باب السلامة مع تركيا في إجازة العيد. ولم تخل تصرفات منظمي العبور من مظاهر فاسدة كالمحسوبيات والرشاوى، وغياب القانون والتنظيم والاعتماد على المزاج وأشياء أخرى، ما جعل حركة العبور تشبه البازارات المزدحمة جداً التي لم يبخل منظموها بالصراخ وتوجيه الإهانات -والضرب أحياناً- بوجه من يحتج أو يعترض على تصرفاتهم (يبدو أن للسلطة مفاعيلها مهما صغرت!).

الروح التي تسود بين معظم الناس هي الروح الذئبية التي تتقاطع كثيراً مع عقلية الشطارة و«تدبير الراس» التي عمل عليها نظام الأسد الفاسد كثيراً، ويحصد الآن شيئاً من نتائجها.

من جهة أخرى، تتوافر في هذه المناطق حرية نسبية يمكن فيها للفرد أن يتكلم كما يشاء إلى حد كبير، وأن ينتقد الكثير من هذه المظاهر السلبية التي تسيء إلى أرواح من ماتوا طلباً للحرية والكرامة، بالتأكيد أكبر بكثير من مناطق النظام، حيث الاعتقال يهدد كل صاحب رأي حر، وكذلك مناطق كانتونات قسد، حيث سياسة الحزب التي لا تسمح بالعمل إلا لمن يؤازرها أو ينضوي تحت جناحها، في تقليد مسخ لتجربة الجبهة الوطنية التقدمية وإشراف المخابرات عليها.

بالتأكيد يتوق معظم البشر إلى الاستقرار والأمان، ولكن ليس على الطريقة الأسدية، أي الأمان الناتج عن رعب المخابرات، بل الأمان القائم على القانون والعدل، إضافة إلى الأمان الاجتماعي الذي تشكله شبكة العلاقات الأهلية. وربما تفسر نسبة عدم العائدين إلى تركيا من الذين دخلوا سورية خلال إجازة العيد، والتي لم تتجاوز العشرة في المئة، قلق الناس من حالة غياب الأمن، ناهيك عن ضآلة فرص العمل.

رغم كل ذلك، يبقى ريف حلب الشمالي أكثر المناطق إمكانية للعمل المدني والسياسي، فجذوة الحرية التي انتفض الشعب من أجلها لم تنطفئ!