الصور عدسة أحمد
كانت الطائرةُ قد حلّقت عالياً، والعيون ترقبها ناظرةً، والوجوه غيرُ ناضرةٍ، تعلوها حلكةٌ وبسرٌ وخوفٌ، والقلوبٌ تضرب أقفاصها بوجلٍ وهلعٍ. مرَّ الأمرُ بخيرٍ لوهلةٍ عندما غابت الطائرة بين السحب البعيدة، فسادَ هدوءٌ حدَسَ بعضُ المراقبين للمشهد أنّه الهدوء الذي يسبق العاصفة، في حين تنفّس بعضهم الصعداء خافضين أبصارهم. وعلى حين غرّة، عادت الطائرة لتشق السماءَ بجسمها الفولاذي، والهدوءَ بصفيرها الذي يشقّ القلبَ، متجاوزةً جدارَ الصوت. التمع منها وَهجَان أحمران. وكانت الوجهة التي لم يخطئانها مدرسة "سد الفرات"، فأحالا جزءاً منها أثراً بعد عين. هُرِع الجميع بعدّتهم وعديدهم إلى موقع الانفجار. ولحسن الحظ عادت النقالات الإسعافية خاويةً، فلم تظفر براثنُ الموت بأنسيٍّ. ولكن العدسة كانت بالمرصاد. كان السنونو في الرمق الأخير، يلفظ أنفاسه. احتملته يدٌ على راحة كفّها. كان المشهدُ جنائزياً بامتياز. حتى السنونو نفسه، كأنه أدرك ما حصل قبل حدوثه، فجاء بزيّه الرسمي متشحاً بالسواد؛ تلك البزّة الرسمية التي تعطيك انطباعاً بأنك أمام قائد فرقةٍ موسيقيةٍ، سوادٌ يلفُّ الجسدَ وبياضٌ يغطّي الصدر. وما يعزّز ذلك طيرانه في دوائر تشبه إلى حدٍّ كبير حركة يدي المايسترو وهو يوجّه الفرقة، ما يذكّرنا بقول أحد الأدباء العالميين، واصفاً المايسترو وحركته، بأنه رجلٌ جنَّ جنونه يبحث عن شيءٍ فقده. فهل وجد السنونو ضالته؟؟ فانطوت صفحات عمره ذاويةً بين براثن الموت الصفراء.
الحكاية برؤيا مختلفة: طائر الأمير السعيد
كلـّما تذكرت ذلك المشهد أعادني إلى الطفولة، والكلام للسيد "أبو حسين"، ونحن جلوسٌ نشخص بأبصارنا إلى شاشة التلفاز، نتابع بأنفاسٍ متلهّفةٍ وعيونٍ مشدودةٍ، الحكاية العالمية الشهيرة للكاتب أوسكار وايلد، والموسومة بعنوان: (الأمير السعيد). وفحواها باقتضابٍ؛ أنّ طائر سنونو تخلـّف عن اللحاق بركب السّرب المهاجر الباحث عن الدفء، لائذاً بتمثالٍ يحتمي منه بالمطر. فتساقطت عليه دموع التمثال، الذي كان يبكي عندما بدأ يشاهد مآسي شعبه، وكانت غائبةً عنه أو مغيّبة، عندما كـــــــــان فــي قصره، فطلب من الطائر أن يقتلع من تمثاله الجواهر، وأن يوصلها إلى البيوت البائسة. فظلّ هذا ديدن الطائر ودأبه حتى انتهى به المطاف ـ وعلى مضض ـ إلى اقتلاع عيني الأمير (التمثال) بناءً على طلبه، وأرسلها إلى فقيرٍ. ولما أنجز مهامّه سقط نافقاً عند قدمي التمثال. وفي صـــبيــحة اليوم التالي استـــــفاقــــت المدينةعلى ذلــــــك الوضع، وقـــرّر أهـــلوها أن يلقوا بالتمثال بعيداً، بعد أن تحول إلى مجرد أحجارٍ مجرّدةٍ من زخرفها وقشورها.
رحيل سنونواتنا بعده
بعد أيامٍ توالت نسيت المشهد، وما أنسانيه إلا عظائم الأمور وجسامها، عندما أسقطت الطائرات سنونوات بشرية لم تتسنَّ لها الهجرة، أو عادت مع أهلها من مواطن النزوح بعد أن ضاقت بهم الأرض على رحابتها، فقد استمرّوا (من المرارة) طعمَ الغربة والبعد وقسوة الظروف. عادوا مرغمين وما درَوا أنَّ الطائرات لهم بالمرصاد.
شاهد وشهيد
بالمصادفة قادتنا الظروف إلى زيارة زمـــــــيلــــةٍ إعلاميةٍ. وما إن أخذنا مجلسنا في الشرفة حتى هالنا المشهد، وقفنا مبلهين للحظة. كان هناك عشُّ يكتنفه سنونوان اتّخذا من أعلى الشرفة موطناً، فأعاد الموضوع نفسه بقوة إلى حيّز الضوء. رويت لها القصة. ترقرقت دمعةٌ حبيسةٌ في محجريها. بلعت ريقها بصعوبة، وانطلقت متحدثةً على سجيّتها: كنت موجودةً في ذلك اليوم السعيد المشؤوم. كانت سعادتنا جمّةً لأنّ أحداً لم يصُبْ، بيد أننا صادفنا السنونو في ساحة المدرسة عند عودتنا. هناك، حيث كان الأطفال يلهون ويلعبون ويمرحون في أوقات الفراغ وبين الدروس، يرقد السنونو رقدته الأخيرة. احتملته بيدي. شعرت برجفانه واختلاجه. وربما هُيّأ لي أنّ حزنه يتغلغل في خلاياي، ينسرب بين عروقي، يسري في دمي. خفتُ للحظةٍ أن يكون هذا الطائر هو نفسه الذي يعشّش في شرفتنا. هالني ذلك الهاجس. تصوّرتُ لحظة الحزن والفجيعة التي ستصيب أسرته وهم ينتظرونه يوماً بعد يوم، دون جدوى