أثار إصدار النظام ورقةً نقديةً جديدةً من فئة الألف ليرة، غابت عنها صورة حافظ الأسد، ردود فعلٍ متباينةً بين السوريين على ضفّتي الموالاة والمعارضة. ففي حين برزت بين الأوّلين فئةٌ غاضبةٌ اعتبرت غياب الصورة بمثابة "الخيانة الوطنية" وتخلياً عن رمزٍ "مقدّس"، مالت الأوساط المعارضة إلى السخرية والشماتة والاستخفاف.
الواقع أنها فعلاً خطوةٌ غريبةٌ من نظامٍ يقوده ابن الدكتاتور المؤسّس، والذي ظل وفياً لإرث أبيه وتلميذاً مخلصاً لتعاليمه في مواجهة محكوميه، وفي سياسات النظام عموماً. وأوّل ما يخطر في البال من إخلاص الابن لإرث أبيه هو مسلكهما المتطابق إزاء ثورة الإخوان المسلمين المسلحة في مطلع عقد الثمانينات، وثورة السوريين السلمية في العام 2011. وتكمن غرابة هذا الإجراء في أنه، من جهةٍ، يثير استفزاز البيئة الاجتماعية الأشدّ ولاءً، وضمنها قسمٌ يحمّل الدكتاتور الصغير مسؤولية فشل ما نجح فيه الدكتاتور الأب بسبب "رخاوة" الأوّل، في رأيهم، مقابل جذرية و"كمال" بطش الثاني ودمويته في مواجهة العدوّ الذي هو الشعب السوريّ. صحيحٌ أن الابن تجاوز أباه وتفوّق عليه، إذا قارنّا حجم الدمار والخراب وأعداد القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجّرين، لكن هذه الفاتورة الباهظة إنما يحمِّلُها ذلك القسم من الموالين على رخاوة الابن في الأشهر الأولى للثورة، للقول إنه لو بطش بالمتظاهرين السلميين، كما فعل أبوه في مطلع الثمانينات في حلب وحماه وجسر الشغور وسجن تدمر، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في السنوات التالية.
وأن الإجراء الذي أثار هذا الاستفزاز للموالين، كان، من جهةٍ ثانيةٍ، مجانياً ولا يحمل أية "رسالةٍ سياسيةٍ" إلى المعارضين فحواها المفترض أن النظام مستعدٌّ للتخلي عن وسائله القديمة في الحكم (أي بإخلاصٍ مطلقٍ لوسائل أبيه) إذا ما مُنح فرصةً ثانيةً بعد وقف التمرّد عليه. فمجرّد التخلي عن صورة الديكتاتور المؤسّس على ورقةٍ نقديةٍ، فقدت قيمتها الشرائية إلى مستوياتٍ فلكيةٍ، لن يعني للبيئة المعارضة التي تمّ تدميرها، بعد كلّ ما حدث، إلا رشوةً مجازيةً فقدت كلّ قيمتها الرمزية بالمطلق.
أما إذا كان الجزّار الصغير قد ضاق ذرعاً بظلّ أبيه الطاغي، فأراد بإلغاء صورته التحرّر من وصاية القبر عليه، فهو، بمواصفاته الشخصية التي باتت معروفةً، أتفه من أن يتمكّن من "قتل أبيه" بالمعنى السيكولوجيّ المعروف، على الرغم من تقدّم العمر به خمسة عشر عاماً منذ تيتم وورث. هذه مناسبةٌ معقولةٌ لإجراء بعض المقارنات بين عهدي الأب والابن، بدلالة العمر من جهةٍ وتاريخ الحكم من جهةٍ ثانية.
ثمة خلافٌ على تاريخ ميلاد حافظ الأسد بين 1928 و1930 وفقاً لمراجع مختلفة. سنعتمد الثاني، من غير أن تكون لهذا الاختيار أية أفضليةٍ أو معنى.
حين استولى الأب على السلطة، بانقلابٍ عسكريٍّ في العام 1970، كان في الأربعين من عمره. وهو العمر الذي ثبّته في "الدستور الدائم" للعام 1973 كأحد شروط منصب الرئاسة. أما ابنه بشار فلم يبلغ "سنّ الرئاسة" هذا إلا بعد ستّ سنواتٍ على وراثته لهذا المنصب، أي في العام 2006 الذي نستذكره عادةً بالحرب الإسرائيلية على لبنان بعد خطف حزب الله لجنودٍ إسرائيليين. في حين لم يتعرّض حافظ الأسد لموقفٍ مشابهٍ إلا بعد انقضاء اثني عشر عاماً على حكمه، أي في العام 1982 الذي شهد اجتياح الجيش الإسرائيليّ للبنان وصولاً إلى بيروت، وكان قد بلغ من العمر 52 عاماً. بنتيجة هذا الاجتياح تمّ إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، في حين حرّمت نتيجة الحرب الثانية على حزب الله تجاوز خط الأربعين كيلومتراً عن الحدود الإسرائيلية.
وفي السنة التاسعة منذ استيلائه على السلطة (1979) بدأت حركة التمرد الإخوانيّ على حافظ الأسد، وكان قد بلغ التاسعة والأربعين من عمره. مقابل أحد عشر عاماً في الحكم، وبعمر الخامسة والأربعين للجزّار الصغير حين قامت الثورة الشعبية عليه في 2011. أما المجزرة التي ارتكبها رفعت الأسد في سجن تدمر، حزيران 1980، فتجد نظيرتها في مجزرة ماهر الأسد في سجن صيدنايا في العام 2008. في سنّ الخمسين بالنسبة إلى الأب، مقابل 42 بالنسبة إلى الابن الذي ربما أراد ارتكاب نسخته الخاصّة من هذه المجزرة في حقّ سجناء، بصورةٍ استباقيةٍ قبل أيّ تمرّدٍ شعبيٍّ عليه.
وفي العام 1984 قام رفعت الأسد بمحاولةٍ انقلابيةٍ لوراثة أخيه حافظ الذي أقعده المرض. لكن الأخير أفشل مخططات أخيه وطرده من جنة الحكم. أما بشار فقد فعل ما يشبه ذلك بقتل صهره آصف شوكت، في صيف العام 2012، مع مجموعةٍ من كبار ضباط النظام في إطار خلية إدارة الأزمة، لاشتباهٍ في حقّه حول نوايا انقلابيةٍ بالتنسيق مع الفرنسيين. يقال إن الإيرانيين هم الذين كشفوا عن تآمر الصهر وأصدروا بذلك القرار بإعدامه.
كان العام 1976 هو عام احتلال الجيش الأسديّ للبنان بذريعة الحرب الأهلية التي كانت دائرةً فيه، مقابل الانسحاب المذلّ لهذا الجيش من البلد المجاور بعد خمس سنواتٍ من حكم الابن (2005)، قبل بلوغه "سنّ النضج" بعامٍ واحدٍ. وتمكن المقارنة أيضاً بين حرب حفر الباطن التي خاضها هذا الجيش تحت قيادة الأميركيين لتحرير الكويت من قوّات صدام حسين في العام 1991، وحرب الاستنزاف الإرهابية التي خاضها نجله ضدّ الاحتلال الأميركيّ للعراق بواسطة جهاديي منظمة القاعدة بدءاً من العام 2003. فعلى رغم التناقض الظاهر في الموقفين، كان الهدف في الحالتين الوصول إلى تفاهماتٍ مع الأميركيين، مرّةً بالانصياع الكامل في حالة الأب، ومرّةً بالابتزاز في حالة الابن. وإذا كان الأميركيون كافأوا الأب على مشاركته في حرب تحرير الكويت بتسليمه رأس ميشيل عون في لبنان، فقد كافأوا الابن بمساعدته على تجنّب السقوط في 2005 مرّةً، وفي 2012 مرّةً أخرى، وما زالوا مستمرّين في هذه السياسة إلى اليوم.
يبلغ بشار الأسد من العمر اليوم 49 عاماً. وقد فقد سيطرته على ثلاثة أرباع الأراضي السورية، ويدير الربع المتبقي له بخليطٍ من ميليشياته وميليشياتٍ شيعيةٍ من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، مرتهناً لنظام الوليّ الفقيه بصورةٍ تامةٍ، حتى يقال إنه رهن عقاراتٍ في العاصمة دمشق للدولة الإيرانية مقابل استمرار تدفق الدعم الماليّ. في هذا العمر واجه أبوه أوّل تحدٍّ كبيرٍ لحكمه بتمرّد الاخوان المسلمين المسلح، فتمكّن من القضاء عليه بشراسةٍ خلال ثلاث سنواتٍ. أما الابن – التلميذ الفاشل فقد نجح في تحويل البلد إلى ساحة حروبٍ بالوكالة، وفي استجلاب كلّ شذاذ الآفاق والمجرمين من أربع جهات الأرض ليقيموا دولة خلافتهم على أنقاض سوريا (والعراق).
من المحتمل أن بشاراً واظب على مقارنة نفسه مع أبيه منذ لحظة التوريث الذي فرضه عليه القدر، كلّ سنةٍ بسنةٍ، ليرى إن كان قد بلغ أخيراً مبلغ الرجال وفقاً لصورة الرجل المثاليّ الذي تمثل، بالنسبة إليه، في شخص أبيه. لكن فشله الدائم في تلك المقارنة ربما دفعه إلى اليأس. وإذ فقد، قبل أسابيع قليلةٍ، أباه الروحيّ اللواء محمد ناصيف، الذي يقال إن حافظ الأسد كلفه بتدريب الوريث الضعيف الشخصية على فنون الحكم، فقد تيتم للمرّة الثانية. بشار، الذي تحرّر من سطوة أمه عليه من خلال عشيقاته اللواتي كشفت عنهنّ مراسلاته الإلكترونية، وفقد أبويه البيولوجيّ والروحيّ على التوالي، بات اليوم وحيداً بالمطلق، تتلاعب به مستشاراته الحسناوات، ويخطّط له الإيرانيون حربه على سوريا.
ترى من الذي أشار عليه بالتخلص من صورة أبيه على ورقة الألف ليرة المتآكلة القيمة والمعنى، في أعقاب موت محمد ناصيف ضابط الارتباط مع نظام الملالي؟