بين العجرفة والتمثيل
لم تكن صدمةً لأهالي المدينة، حادثةُ مقتل أحد شبّان دير الزور، منذ أيامٍ، على يد عنصرٍ من تنظيم الدولة الإسلامية. ليس لأن الأمر عاديٌّ، ولكن لأنه أصبح معتاداً في ظلّ العقلية التي تتحكم بأولئك العناصر وقياداتهم.
المهاجر، الذي تدخّل لفضّ شجارٍ كان الشابّ طرفاً فيه، لم يعجبه أن يُرفض أمره بالتوقف عن المشاجرة، ففتح النار من مسدّسه فوراً، كما روى مقرّبون من الضحية. على أنّ مثل هذه الواقعة باتت من الكثرة بحيث أنها لم تثر أية ردّة فعلٍ لدى أحد، إذ سبقتها حالاتٌ أجهز فيها عناصر من التنظيم على جرحى لم يقتنع العناصر أن جراحهم سبّبها القصف، بل زعموا أنها نتجت عن المشاركة في محاربة التنظيم. كما قُتل آخرون لأنهم لم يقفوا على أحد الحواجز، أو لأنهم هربوا من "سيارة إخوةٍ" رأوهم يدخّنون، أو ما إلى هنالك من ممارساتٍ يمنعها التنظيم. وسُجّلت كلّ تلك الحوادث في خانة القتل الخطأ.
قد تكون العقلية التي تقف وراء تلك التصرّفات هي ذاتها التي تقف وراء الكثير سواها، خاصّةً فيما يتعلق بالمستخدمين المدنيين (الإداريون والفنيون العاملون مع التنظيم من غير المبايعين. ويسمَّون مرتزقةً لأنهم يعملون مقابل المال!). فقد طُرد من فوج الإطفاء، منذ أيامٍ، ثلاثة عمالٍ، لأنهم "تعدّوا على المجاهدين". ولكن أحدهم نقل عن المسؤول عنهم أن السبب لم يكن إلا صوت محرّك سيارة الإطفاء الذي أيقظ أحد المهاجرين من النوم. ولا يخرج طرد العمال هذا عن خطٍّ يملأ التفاصيل اليومية التي يتعامل بها العناصر مع جميع العاملين معهم من المناصرين أو المدنيين. إذ يُلجأ إلى الخصم المضاعف -الذي يصل إلى 3500 ليرةٍ- مقابل تأخير ربع ساعةٍ عن العمل، مع عدم السماح بالاعتراض أو النقاش. وهو ما دفع أحد المعلمين (وهم المتهمون بالردّة على الجهالة)، وقد عايش تلك التصرفات عن كثبٍ، إلى وصف العناصر بالمتعجرفين، إذ لا يراعون "حسباً ولا سنّاً ولا مكانة".
وبعد معاينة تصرّفات العناصر الجدد من "الديريين"، يلاحظ البعض أنّ الانقلاب يحدث لهم خلال شهرٍ واحدٍ (مدّة دورةٍ يقضيها المنضمّون إلى التنظيم قبل الاعتراف بعضويتهم). فهذا الشهر هو ما يفصل بين المدنيين والمبايعين. وهو الذي يسمح لهؤلاء بمحاصرة الأهالي، ودفع المدخّنين منهم -على سبيل المثال- إلى استعمال العطر وحبّات "زاهي" قبل مقابلتهم، ومسايرتهم لأن أيّ إزعاجٍ لهم قد يؤدّي إلى الاعتقال، وعدم ذكر المعتقلين لدى الأمنيين أمامهم، أو تسمية الشخصية المسؤولة عن الاعتقال ومكانه. الأمر الذي يبدو سياسةً ممنهجةً –في دير الزور على الأقلّ- يتّبعها الأمنيون الذين ينكرون علاقتهم بأيّ اعتقالٍ، ويحتجزون كلّ من يسأل عن معتقلٍ لديهم. لذلك، ولغيره (من مراقبة ممارسة العبادات، أو احتكار تحليل الأحداث)، اختُصرت كلّ الأفكار التي تعبّر عن ذلك الانقلاب بجملة "ما لهم وداد". لتسوّغ التعامل مع هؤلاء المبايعين الجدد بالطريقة التي يرغبون فيها، بإغماض العين عن الواقع القائم وافتراض واقعٍ موهومٍ، وعدم طرح الكثير من الأمور أمامهم، حتى وإن لم تكن تناقش أفكار التنظيم وفرصه ومشروعيته وتحالفاته وغيرها من المحرّمات.
منذ أن أصبح الشأن العامّ حكراً على التنظيم ومؤيديه، لم يعد مسموحاً نقدُ أيٍّ من سياساته -على الملأ- أو أيّ توجّهٍ صادرٍ عنه، على المستوى الرسميّ خاصّةً، أو انتقاد أمرائه على المستوى الإجرائيّ، أو حتى عناصره على المستوى الشخصيّ، إلا في حالاتٍ قليلة. وقد جاءت تصرّفاتٌ من هذا النوع بنتائج مخزية، كحبس وحلاقة شعر أبو حذيفة، العضو السابق في مجلس المحافظة المعارض، عندما احتجّ على أميرٍ تونسيٍّ وجّه إهانةً للأهالي. ولذلك، فليس من المستغرب أنه، حين حاول إعلاميٌ مستقلٌّ -بعد موافقة التنظيم- أن يسجّل شكاوى الأهالي في تقريرٍ؛ لم يقبل أحدٌ الكلام إليه. إذ صارت "الله المستعان" و"حسبي الله" و"لا حول ولا قوة إلا بالله" هي النقد الوحيد المتداول في الحياة العامة، والذي يثير البعض، رغم أنّ التنظيم يحاسب عناصره بقسوةٍ شديدة.
يقول أحدهم: رغم أنهم يعلمون أنّ الناس لا تحبّهم، لكنهم يصرّون على دفعهم إلى تمثيل دور المواطنين الواثقين من ساستهم والقانعين بهم، وذلك بإصرارهم على تمثيل دور الساسة المعصومين الواثقين من أفكارهم وقراراتهم.