منافي العقل وجحيم المذابح.. ووسام كراهية القتلة

تتشابك المنافي والهجرات القسرية في سوريا، بين نزوح تحت أهوال القصف البساطي الروسي وعشوائية موت البراميل الأسدية، كما يحدث في إدلب وريف حماة، وبين منفى طوعي إلى العقل والسكون وصولاً إلى لحظة موت رصين ومفجع لقامة مفكر يصنفه العالم برمته كأحد أهم 100 فيلسوف في زماننا، ويرفض نظام الأسد حتى أن يعترف بوجوده وموته كما حدث مع الدكتور طيب تيزيني.

بالجمع والمفرد، في العموم والخصوص، وفي الغائب من تفاصيل تطمرها جبال القنابل وفي الحاضر من إرث رجل كتب وأفهم وناضل بقدرة عقله، في كل تفصيل سوري ثمة أفق حالك يتربص بالأرواح ويفضي إلى مآلات مأساوية؛ لوطن منهك ومدمى كجسد شهيد كهل -في سراقب أو معرة النعمان أو كفرنبل- كان يترقب أذان المغرب ليبلّ ريق صيامه بأي قوت غير دمه.

صُدمتْ سوريا -أحرارها نقصد هنا- حين أفاقت على نبأ وفاة شيخ فلاسفتها، وفجعت وهي تقرأ سيل الشماتة من أنصار عصابة الأسد ومرتزقة مليشيات إيران بموت الرجل الذي نذر ضميره لخير العقول والأفكار، باستعارات تستحضر قاموس التخوين في أدبيات تنظيم إرهابي كحزب الله، بل وتحتفي علناً بجنازته المتواضعة التي جمعت عشرات من محبيه.

لا تقتضي الكراهية في أعراف التشبيح أيّ معرفة مسبّقة بموضوعها لإطلاقها، ولا معنى لتجربة فكرية فذّة مقابل نزعة الإلغاء التي تستبد بأذهان من يؤلفون الأغاني ليدبكوا على مذابح إدلب، ونجزم أنّ الراحل ما كان ليقبل أن يكون موته حدثاً طاغياً على مأساة ثلاثة ملايين مدني.

ولعل هذا المزيج هو ما يجعل موته موضوعاً لاحتفال الشبيحة، فالتيزيني كان حاضراً في لحظة الثورة الأولى، ووجوده في مظاهرة وزارة الداخلية كان أحد وجوه انفصال العقل السوري الحر عن دولة القهر، وجرحه في وجهه كان أحد إعلانات النظام عن سعاره وجهله وانعدام رغبته بالتمييز.

قد لا يكون الطيب تيزيني جزءاً من الحدث اليومي في الثورة والحرب، لكنه عاش مبدأ موقفه الذي أسسه قبل الثورة بعشر سنوات معلناً أنّ حكم آل الأسد هو "إفساد من لم يفسد بعد.. كي يصبح الجميع مداناً".. رفض أن يصبح مداناً، وبكى الشهداء علناً فنال وسام أن يكرهه القتلة