من عرس جماعي لجنود الاسد
على عادة الشماتة بقتلى النظام وجرحاه؛ ربما تثير صورة أمّ مجد رزوق -أحد قتلى الجيش الأسديّ- وهي تقف بجانب "مجسّمٍ" لابنها القتيل، في ليلة عرس ابنتها، الكثير من السخرية لدى بعضنا. هذا المجسّم الكرتونيّ الذي أهداها إيّاه الصهر بمناسبة زواجه، للإيحاء بحضور الابن الذي كان قد أمضى خمسة أشهرٍ في خدمة النظام، ليسقط بعدها في معركة تحرير مدرسة المشاة الشهيرة بحلب، في أواخر عام 2012، ولتبقى جثته مجهولة المصير.
لكن، وبما أنّ "الدعس" قد "تمّ"، والتشفّي الحاقد يستلزم اكتمالُه بالضرورة قهرَ عدوٍ قويٍّ بكامل عنجهيته؛ فبهذا المعنى، لا تحقق صورة الأم الضعيفة ومجسّمها البائس ما يصبو إليه غلُّ الشامت، الذي قد يشعر براحةٍ أكبر أمام فيديو أسرِ طيارٍ بزيّه العسكري بعد أن ألقى براميله... من هنا يتسلل شيءٌ من تضارب المشاعر يشبه ما تحكيه الصورة عن الطرف الآخر. إذ إنّ مشهد استحضار المأساة هذا، "مجسّمةً"، إلى ليلة الفرح يعكس خلفه عالماً من الاضطراب والتناقض بين الحزن والألم، من جهةٍ، وبين السعادة والاحتفال، من جهةٍ أخرى، لدى العائلة المؤيّدة المفجوعة، لا يبرّره السلوك التلقائيّ للصهر الراغب في التودّد إلى عائلة زوجته من خلال عربون الموت وحده؛ بل يتعدّاه إلى احتفاءٍ بالهزيمة التي يمثلها مجسّم الابن، وتجسيدها "حيةً" أمام الملأ. هذا ما يدلّ عليه ردُّ فعل الأمّ، التي لم تتجاهل الذكرى الحزينة كما تفرض المشاعر البشرية السويّة على صاحبها أن يفعل، بل استبدلت بذلك نقيضه، بعد أن قبلت الهدية المفزعة تلك والتقطت إلى جانبها الصور، لتنقلها معها لاحقاً حيثما حلّت، على منصّات الاحتفاء التي تقام لتكريم ابنها وقتلى النظام الآخرين، مصرحةً ذات مرّةٍ: "السعادة الحقيقية التي كنت أتمناها... تجسّدت بوجود هذا المجسم"!
ومثلما فعلت في نكرانها لألمها؛ لم تستكن كفى كنعان -وهو اسم الأم- إلى الاستسلام بعد مقتل ابنها، فحرصت على الظهور في وسائل الإعلام المحلية، لأنها نشطت الآن في مجال إعانة جرحى النظام في اللاذقية وريفها، مرتديةً زيّ حدادها الأسود الذي طبع عليه "نسر" الجيش السوريّ، لتتحدث عن تأييدها للأسد ولجيشه، مكرّرةً شعارات فداء الوطن والقائد الذي تذهب الدماء رخيصةً في سبيله، كما عوّدنا ذوو قتلى وجرحى النظام على القول. وإذ تمثّل المرأة وعائلتها نموذجاً لـ"حاضنة النظام الاجتماعية" المستنزفة والمتورّطة في الرهان على الأسد؛ فإنَّ الاستنتاج البديهيّ يحيل إلى أنّ ذاك الاضطراب الذي لحق بها ليس إلا مثالاً عن حالةٍ أعمّ من فقدان الطمأنينة ضربت المجتمع الموالي، تعبّر عنه قصصٌ سوداويةٌ للشباب الذين ذهبوا بلا رجعة، أو عادوا بلا أطرافٍ، أو ليروي المعافى منهم ذكرياته عن لحظات الرعب التي عاشها أثناء تأديته لمهامه "الوطنية"، دون أملٍ واقعيٍّ بنهاية الكابوس الذي حلّ بهم.
وجهٌ آخر لإعلام الجرحى
في الوقت الذي يحرص فيه النظام ووسائل إعلامه على عدم الكشف عن إحصائياتٍ دقيقةٍ تقود إلى معرفة أعداد القتلى والجرحى في صفوفه، فيما يعوّض "التكريم" المتفاوت للجرحى ولأسر القتلى جزءاً من هذا الفراغ الإعلاميّ؛ تنشر كفى كنعان في جريدة "الوحدة" المحلية في اللاذقية، بشكلٍ أسبوعيٍّ، شهادات جرحى الجيش الذين تلتقيهم. وتتوجّه تلك الشهادات، على وجه الخصوص، إلى جمهور المتضرّرين من حرب النظام وتبعاتها، لتصف تفاصيل الهلع ودموية المعارك، من جهةٍ، ولتبوح، بشكلٍ أو بآخر، ودون قصدٍ، بالشعور المبطّن للمدافعين عن النظام تجاه ما يحدث، من جهةٍ أخرى. تروي القصة، التي جاءت على لسان ريمي ياسين الشاطر، حجم إصابته: "... تقدّمنا مسافة 1 كم بعد مفرق خربة غزالة. ولكن انفجرت عبوة ناسفة في طريقنا. طرت في الهواء وأحسست بدم في عيوني وطنين في أذني، وأثناءها تهيأ لي صورة بناتي وأهلي. فقدت الوعي. وأدت إصابتي إلى فقدان النظر في عينيّ والسمع في أذنيّ، إضافة إلى بقايا شظايا في الجمجمة والوجه وتفتيت في كعب الرجل...".
ويسرد كنان سميع كنعان، أحد جرحى الحرس الجمهوريّ في دير الزور، آخر لحظات خدمته العسكرية في ويسرد كنان سميع كنعان، أحد جرحى الحرس الجمهوريّ في دير الزور، آخر لحظات خدمته العسكرية في حي الجبيلة: "... لتأتي رصاصة غدرٍ بيدي. مسكت سلاحي باليد الأخرى وعدت لإطلاق الرصاص، لأصاب بطلقة قنّاصٍ حارقةٍ في وجهي، فبدأت الدماء تسيل لتغطي جسمي كله. بعدها فقدت الوعي. وأدّت إصابتي إلى شللٍ في عصب الوجه وصعوبة الحركة في اليد اليمنى والرجل اليمنى ونقص السمع...".
يعزو الجرحى دائماً أسباب هزائمهم إلى أوصاف العدوّ، التي تأتي في تصوّراتٍ لا تخلو من خيال. يقول علي محمود كنعان، الذي تلقى طلقاً نارياً في صدره: "هاجمونا بأعدادٍ كثيفة... وكالجراد هجموا للدخول من الأبواب والنوافذ...". أو ما جاء على ذكره أحمد مرتكوش، أحد جنود الحرس الجمهوريّ في ريف دمشق: "...وكعادتهم استخدموا أسلوب الغدر والخيانة، بالتفاف مجموعة مسلحة من الخلف. فأصبت برصاصة غدر في الظهر، وطلقة أخرى توغلت في رجلي...". إذاً، تبدو صفتا الغدر والأعداد الكثيفة للعدوّ -كتائب الثورة- المبرّرات الوحيدة لتفوّقه وللهزيمة الموضعية للأسديين. دون الإشارة، ولو بكلمةٍ، إلى سوء إدارة القيادات العسكرية أو السياسية التي تزجّ بهم في المحرقة. وهذا يعني ما يعنيه أيضاً، من اعترافٍ ضمنيٍّ بكثرة أعداد هذا العدوّ في مختلف المناطق التي يقاتل جيش النظام فيها. وبالإضافة إلى ذلك، تكشف هذه المقابلات عن حجم تورّط مجتمع ريف اللاذقية في المعركة، إذ تأتي بمجملها على لسان الجرحى المتحدّرين من قرى هذا الريف، الذين تبلغ أعمار معظمهم أوائل العشرينات، باستثناء الضباط.
تقول أمّ باسل هيثم صقور، ذي العشرين عاماً، الذي كان يخدم في الفرقة الرابعة في ريف دمشق: "ولدي وسام شرفٍ أقدّمه للوطن. وأخوه الثاني يخدم في صفوف حماة الديار. أستمد منهم الأمل والثقة بالنصر. حمى الله بلدنا وقائدنا المفدى بشار حافظ الأسد". وعلى غرار أبيهم؛ يخدم ثلاثةٌ من إخوة هلال عماد أحمد في صفوف الجيش، أصيب أحدهم مرّتين في حماة ودمشق. فيما سقط أخوا الجريح وائل محمود سلطان قتلى أثناء خدمتهم في قوّات الأسد خلال الثورة. لتقول أمهم: "... حمى الله سورية وقائدها. والنصر المؤزر بإذن الله".
إذاً، هكذا تمسي شعارات البطولة والشهادة وقائد الوطن لازمةً وحيدةً وملجأً أخيراً يسكّن الجراح النفسية والجسدية التي يعاني منها المقاتلون المؤيّدون، دون أن يعنى أحدٌ بما يدّعونه من جبروتٍ إلا الساخرين منا، أو الذين يصدّقون منهم ما يرويه النظام عن القوّة الساحقة لجيشه، وانتصاراته في تفكيك العبوات وملاحقة فلول الإرهابيين المتدفقين دوماً، فضلاً عن الوعد والحلم بعودة "الأمن والأمان".
وبنشرها لهذه الروايات الفجّة، تلعب كفى كنعان -أم مجد- مع الرعب والفزع اللذين اختبرتهما بنفسها، واللذين تشاهدهما يومياً في وجوه الجرحى الكثر الذين تلتقيهم لتروي قصصهم كما هي على العلن، عسى أن يحقّق ذلك شيئاً من الأمان المفقود، ويؤنس وحشة الخوف من المستقبل الذي بات جمهور المؤيدين يدرك أنه لن يعود إلى الوراء كما يعِد النظام.
من أجواء الخوف والاضطراب هذه تُصنَع المجسّمات. ومنها أيضاً تُشيَّد النصب التذكارية للبوط العسكريّ في الشوارع والساحات، وترتدي العرائس بدلاتٍ مبرقعةً، في صورةٍ أخرى للضعف والهشاشة البشريتين... وفقدان الأمل.