- Home
- Articles
- Radar
من سيرة جند الأقصى وعن اقتتالها مع أحرار الشام
في الأسبوعين الأخيرين اندلعت مواجهاتٌ عنيفةٌ بين حركة أحرار الشام وجماعة جند الأقصى، كانت حصيلتها عشرات القتلى والجرحى من الطرفين، إضافةً إلى عمليات أسرٍ وخطفٍ متبادلةٍ في مناطق عدّة. وكان اعتقال أحرار الشام أحد عناصر الجند في مدينة سراقب بتهمة تبعيته لتنظيم «داعش»، ثم اختطاف الجند مسؤولاً أمنياً من الأحرار في المدينة ذاتها، في يومي 4 و5 من هذا الشهر، الشرارة الأخيرة التي أشعلت المواجهات التي امتدّت إلى مدنٍ وقرىً عدّةٍ في ريفي إدلب وحماة، ولم تتوقف إلا بإعلان الجند بيعتهم لجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً)، في بيانٍ وقعه عنهم أبو دياب سرمين، القائد الثاني أو الثالث للجند، إلى جانب الجولانيّ أمير فتح الشام.
وبرّر البيان هذه البيعة بالحرص على «حقن دماء المسلمين وتجاوزاً للاقتتال الداخلي الحاصل بيننا وبين أحرار الشام الذي لا يستفيد منه الا النظام وحلفاؤه»، ونوّه إلى إحالة «المشكلة الأخيرة والقضايا العالقة إلى قضاء شرعي يتفق عليه مع قيادة فتح الشام».
لم تكن المواجهات الأخيرة وليدة وقتها، بل جاءت حصيلة حربٍ باردةٍ واحتكاكاتٍ مستمرّةٍ بين الطرفين، ظهرت مفرزاتها إلى العلن بخروج جند الأقصى من جيش الفتح في شهر تشرين الأول من العام الماضي، قبل أن تؤدي وساطاتٌ قادتها جبهة النصرة –آنذاك- والشيخ السعودي عبد الله المحيسني إلى عودةٍ شكليةٍ ومشروطةٍ للجند. ولكن رغم عودة الجند إلى جيش الفتح، الذي تعدّ حركة أحرار الشام أحد أبرز مكوّناته، ظلت علاقتهم بالحركة متوترة. ففي شباط الماضي داهمت أحرار الشام مقرّاً في مدينة سراقب عثرت فيه على عبواتٍ متفجرةٍ لاصقة، واعتقلت عدداً من الأشخاص بعدّهم خليةً أمنيةً تتبع تنظيم داعش، كان بينهم اثنان من جند الأقصى حسب ما قالت مصادر من الحركة. وفي آذار اشتبك مقاتلو الأحرار مع مقاتلين من جند الأقصى في بلدة سرمين بإدلب بعد أن أقام الجند خيمةً لتقبّل العزاء بمقتل حسان عبود، قائد لواء داوود الذي انضمّ إلى تنظيم داعش. ووقع اشتباكٌ آخر بينهما في قرية الرامي في جبل الزاوية قيل وقتها إنه حدث على خلفية شجارٍ بين عائلتين من القرية. وفي نيسان تعرّضت شخصياتٌ ومقرّاتٌ للأحرار لعدّة اعتداءاتٍ كان أبرزها هجومٌ انتحاريٌّ بدراجةٍ ناريةٍ مفخخةٍ استهدف مقرّاً للحركة في مدينة بنش بريف ادلب، أدى إلى مقتل ماجد الصادق، القائد العسكريّ في الأحرار، وثلاثةٍ آخرين. وأعقب هذا الهجوم بأيامٍ اغتيال قائدٍ عسكريٍّ آخر هو سعود العساف بعبوةٍ ناسفةٍ على طريقٍ قرب معرّة النعمان. وفي حينها استنفرت الحركة عناصرها ونصبت الحواجز على الطرق، مقابل استنفارٍ آخر من جند الأقصى، وخاصةً عقب محاولة اغتيال أمير الجند في مدينة أريحا. وفي تموز تعرّض القياديّ في أحرار الشام محمود سيف لمحاولة اغتيالٍ ثم اختُطف بعد اسعافه إلى مشفىً في إدلب ليُقتل بعد ذلك. عقب مقتل سيف اجتمع ممثلون عن الفصيلين أمام مجلس شورى جيش الفتح، وانتهى الاجتماع إلى اتفاق صلحٍ من عدّة بنودٍ كان أهمها تسليم القاتل، ووقف التراشق الإعلاميّ، والحضّ على حلّ الخلافات بين الجانبين بأسرع وقتٍ ممكن. في معظم الاعتداءات السابقة، واعتداءاتٍ أخرى طالت الأحرار وسواهم من الفصائل، وُجّهت أصابع الاتهام إلى جند الأقصى الذين كان ردّهم الإنكار أو التملص أو اتهاماتٌ مضادة.
من سيرة جند الأقصى
بإعلان ما يسمّى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، في نيسان 2013، عصفت بجبهة النصرة أزمةٌ شرعيةٌ وتنظيميةٌ كبرى، كانت من نتائجها ولادة جماعاتٍ وفصائل جهاديةٍ عدة، اتخذ قادتها موقفاً مستقلاً في السجال الحاصل آنذاك بين «الدولة» والجبهة، وشكلت جند الأقصى إحدى أهم هذه الجماعات. يرجع تأسيس الجماعة على الأرجح إلى حزيران من العام 2013، على يد محمد يوسف العثامنة المعروف بـ «أبو عبد العزيز القطري». وربما أسهم في ولادتها القوية تمايز معظم أفرادها قبل ذلك في كتلةٍ تنظيميةٍ محددةٍ داخل جبهة النصرة، أخذت اسم سرايا القدس. كما أسهمت الكاريزما الخاصة لأبو عبد العزيز القطري وتاريخه الجهادي في سرعة بروز جند الأقصى عقب تأسيسها. فحسب دراسةٍ لمجلة «عين المدينة»، صدرت باسم «طيف القاعدة»، كان أبو عبد العزيز القطري «مدرباً للفنون القتالية في أفغانستان، ثم عاد إلى العراق وشارك في تأسيس جماعة أنصار الإسلام. تعاون مع أبو مصعب الزرقاوي إثر التدخل الأمريكي في العراق في العام 2003». ثم انتقل بعد ذلك إلى قطر حيث عمل إلى حين اندلاع الثورة السورية وانطلاق حراكها المسلح، ليتوجه إلى سورية ويعمل مع الأحرار ثم مع جبهة النصرة*. وحتى مقتل القطريّ في الشهر الأول من العام 2014، على يد جبهة ثوار سورية في دير سنبل بريف إدلب، لم يلاحظ في أداء الجند أيّ غلوٍّ أو تطرّفٍ زائد، بل قاد القطري مبادرة صلحٍ بين تنظيم داعش وبعض فصائل الشمال السوريّ، وهي التي أدّت إلى مقتله حسب ما يقال. لكن مع تسلم أبو ذر الجزراوي أو الحارثي القيادة الفعلية للجند خلفاً لأبو مصعب سراقب (عمار جعبور، قاد الجماعة بعد القطري وقتل في أيار 2014) تنامى الخط المتشدد داخل الجند وهيمن على صبغتهم العامة.
خلال الأعوام الثلاثة السابقة من عمر جند الأقصى تفاوت عدد المنتسبين إليها بين بضع مئاتٍ إلى أكثر من ألفٍ بقليل، لكن شدة البأس التي عرفت بها الجماعة، وتحالفها الوثيق مع جبهة النصرة ضد جبهة ثوار سوريا وحركة حزم أول العام 2015، ثم انضمامها إلى جيش الفتح ومشاركتها الفعالة في معاركه ضد قوات الأسد في مدن إدلب وأريحا وجسر الشغور ربيع ذلك العام، هيأت للجند تأثيراً أوسع مما تتيحه قدراتهم الموضوعية. كما كان لاستقلالهم الواضح عن التأثيرات الخارجية المعروفة، ولصلابتهم في رفض التعاطي أو التكيّف ولو شكلياً مع المخاطر التي تهدد الحركات السلفية الجهادية برمتها، دورٌ في الجاذبية النسبية التي أحرزوها في بعض البيئات المتطرّفة في محافظتي إدلب وحماة على وجه الخصوص. واستهوى الجند معجبين بتنظيم داعش، حال بعدهم الجغرافيّ عنه دون الانتساب إليه، ليشكل الانتماء إلى الجند انتماءً بديلاً وقريباً يغنيهم عن الرحيل إلى أرض داعش ويعفيهم من التورط المصيريّ معها، لا سيما في ظل الحال البائس والمتهاوي الذي يمرّ به التنظيم. وبالرغم من النفي الدائم لأي علاقةٍ أو تعاونٍ يجمعانهم بتنظيم داعش، إلا أن أداء الجند العام ظلّ يذكر بأداء داعش قبل تمكنها، فشابهت الاتهامات التي يطلقها عناصر الجند على الفصائل الأخرى اتهامات داعش لها، وشابه سلوكهم الأمنيّ سلوكها، فضلاً عن الأدلة التي تسوقها حركة أحرار الشام منذ عامٍ وأكثر عن هذه العلاقة بُعيد كلّ احتكاكٍ بين الطرفين.
في البيان الصادر عن جند الأقصى بمناسبة خروجهم من جيش الفتح، قبل عامٍ من اليوم، برّر الجند هذا الخروج بسبب «تأييد بعض الفصائل في جيش الفتح للمشاريع الصادمة للشريعة الإسلامية». وساق البيان واقعةً -لم تحدث- كدليلٍ على هذا التأييد، هي توقيع هذه الفصائل على بيان المبعوث الأممي لسورية، ستيفان ديمستورا، مركّزاً على البند القائل بـ«احترام إرادة الشعب السوري الذي يملك وحده سلطة تأسيس الدستور المستقبلي...» من هذا البيان، وكذلك «الترحيب بالتدخل التركي والخطابات الانهزامية»، حسب بيان الجند شديد الأهمية حينذاك من ناحية إظهار الخلاف العميق مع حركة أحرار الشام التي «تضغط علينا لقتال جماعة الدولة». وكذلك من ناحية موقف الجند المزعوم من تنظيم داعش الذي عدّ البيان خلافته «غير منعقدةٍ ولا تصح»، وتبرأ مما «وقعو فيه من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم بغير حق». وأخيراً من ناحية تذكير البيان بوقفة الجند مع «شيخ المجاهدين اليوم، صاحب الفضيلة، الشيخ أيمن الظواهري..»، دون أن يشرح ماهية هذه الوقفة مع زعيم تنظيم القاعدة. وعلى الطرف الآخر أبدى تنظيم داعش، في دعايته ضد الفصائل الجهادية وغير الجهادية، الكثير من التفهم لموقف الجند المعلن في بيانهم ذاك وبياناتهم الأخرى، بل وقف أنصاره الإلكترونيون على مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى جانب جند الأقصى وكالوا تهم الردة والتبعية لأجهزة المخابرات الغربية والإقليمية لخصوم الجند. وكان إدراج الولايات المتحدة جند الأقصى على لائحة الإرهاب في الشهر الماضي، ثم معارك الجند والأحرار، دليلاً، حسب أنصار داعش –وأنصار الجند بالطبع- على تلك التبعية.
ما زال الغموض يشوب تفاصيل بيعة جند الأقصى لجبهة فتح الشام، إذ يقول مقرّبون من الجبهة إنها بيعةٌ إفراديةٌ ستذيب الجند مع مرور الوقت، فيما يُنسب لأبي ذر الجزراويّ، قائد الجند، إصراره على أنها بيعة جماعةٍ كاملةٍ ستظل كتلةً واحدةً في صفوف الجبهة. وفي كل الأحوال سيؤدي هذا الانضمام إلى تعزيز التيار المتشدد في جبهة فتح الشام، إن لم تنجح في صهرهم وانتزاع آثار داعش من أنفس عددٍ كبيرٍ من مقاتلي الجند وفكر قادتهم.