لم يصدّق لحظتها أن تلك الكتلة الملفوفة من القماش الأبيض على جانب الطريق قد تخفي بين طياتها كائناً بهذه الرقة. حين اقترب منها اكتشف أنها لم تكن مجرّد قطعة قماشٍ ملقاةٍ على الأرض، بل كانت طفلاً صغيراً لا يملك من وسائل التعبير سوى الصراخ.
هذه القصة واحدةٌ من قصصٍ عديدةٍ حدثت في الآونة الأخيرة كان محورها أطفالٌ صغارٌ عُثر عليهم بالصدفة، تبين أن بعضهم مخطوفون بسبب مشاكل عائليةٍ أو بقصد طلب الفدية، وقسمٌ منهم أطفالٌ في سنٍّ مبكرة، وتمت استعادتهم من قبل ذويهم بعد التحقق من الأمر. "عين المدينة" حاولت رصد إحدى تلك القصص للتعرّف على كيفية تعامل المجتمع مع ظواهر من هذا النوع في ظل غياب مؤسسات الدولة. معاذ - كما أطلقوا عليه فيما بعد - كان طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عمره شهرين حين وجده شابٌّ كان يقود دراجته النارية في السادسة صباحاً. استوقفته تلك الكتلة القماشية واقترب منها فإذا بها تخفي طفلاً رضيعاً توجّه به إلى حيث يقيم.
قالت السيدة التي استضافته في أيامه الأولى بعد العثور عليه لـ"عين المدينة": كان منظر القماش على طرف الطريق يوحي بأن هناك من وضعه قصداً. ورغم ارتياب الشابّ اقترب منه فوجده وقد نام، ربما بعد أن تعب من البكاء. أخذه إلى حيث يقيم وهنا طلبتُ منه أن آخذه ريثما يتمّ التأكد من وضعه إن كان مخطوفاً أو أن أمه رمته هنا على الطريق. أبلغتُ الهيئة الشرعية بالأمر وتمّ الاعلان عن وجوده عندنا في حال سأل عنه أحد، فظاهرة الخطف كانت منتشرة، وكان احتمال خطفه وارداً جداً. ومرّت أيامٌ عدّةٌ لم يسأل عنه أحد. بدأتُ بالتعلق به وشعرتُ وكأن الله سبحانه وتعالى قد أرسله لي أنا بالذات، فقرّرت أن أتبناه رغم رفض الجميع حولي لهذه الفكرة بحجّة أن لديّ أبناءً وبناتٍ آخرين، ويمكن إعطاؤه لأسرةٍ ليس لديها أطفال. بعد أيامٍ من بقائه عندنا علمنا بأن الهيئة الشرعية أعلنت أنها تبحث عن عائلةٍ لتتبناه شرط أن تكون أسرةً صالحة، ويفضّل أن تكون بلا أطفال. هنا قررتُ أن أكون أنا وأسرتي تلك العائلة، فقد تعلقنا به وأحببناه كثيراً، وبدأنا نتعامل معه كفردٍ من العائلة. هنا جاءت إليّ سيدةٌ من قريةٍ مجاورةٍ وعرضت عليّ أن تأخذه لتربيه. وما هي إلا أيامٌ حتى جاءت سيدةٌ أخرى وقدّمت العرض نفسه فرفضتُ كذلك. إلا أنها سألتني وهي تهمّ بمغادرة المنزل: بكم تبيعينه؟ صعقني سؤالها! كيف يصبح طفلٌ بهذه الروعة سلعةً يمكن أن تشترى وتباع؟! إلا أن الصاعقة الحقيقية كانت عندما بدأت تلك السيدة بالحديث عن الأمر، وانتقمت مني بأن أشاعت عكس ما حدث تماماً، وبأنني أنا من عرضتُ عليها بيع الطفل بمبلغ 200 ألف ليرة سورية! كنت أتخيل أن الأمر لن يتجاوز هذا الحدّ إلـــــــــى أن جاء إليّ مندوبٌ عن الهــيئة الشــــــرعية وطالبني بتسليم الطفل بحجّة أنني قد عرضته للبيـــع. حاولتُ أن أنفي الأمر وأبين له أن تلك مجرّد إشـــاعةٍ كاذبــــة، لكنه لم يقـــــتنع، واضطررتُ إلى تسليم الطفل رغماً عني. أخذوه مني وكأنهم أخذوا أحد أبنائي الذين أنجبتهم. قضيتُ أياماً وليالي وأنا أفكر به وبالحال التي آل إليها. عرفتُ فيما بعد أنه قد تمّ تسليمه إلى عائلةٍ بلا أطفالٍ في القورية. هم بالتأكيد يحتاجون إليه أكثر مني، ولكن هل سيربونه كما كنت أتمنى له؟ هل سيحبونه كما أحببته؟ هذا السؤال يدور في ذهني كلما فكرتُ فيه وتذكرته. وعلى أيّ أساسٍ تمّ تحديد من الأصلح منا لتربيته؟ وهل يحق لهم أن يأخذوه مني بهذه الطريقة؟ هذه الحال تعكس طريقة التعامل مع مثل هذه الحالات، ولا أعتقد أنها الطريقة الملائمة.