مصطفى | عدسة أحمد | خاص عين المدينة
في مقرّ كتيبةٍ من كتائب الجيش الحرّ بدير الزور يعيش مصطفى. وهو طفلٌ ذو (13) عاماً، من أبوين منفصلين. والده في حيّ الجورة المحتلّ، يقاتل مع جيش الشبّيحة أو جيش الدفاع الوطني.
لمصطفى أخوان يكبرانه في السن، وكانوا جميعاً يعيشون مع أبيهم المتزوّج من امرأةٍ أخرى في حيّ الجبيلة. وبعد ارتفاع حدّة القصف بالمدفعية والطائرات، نزح مصطفى مع أهله إلى حيّ الجورة، وهناك بدأت حلقةٌ جديدةٌ من حلقات معاناة هذا الطفل. إذ لم يغيّر النزوح من طباع والده الوحشيّة في التعامل مع أبنائه إلا إلى الأسوأ، وخاصّة مع انضمامه إلى ما يسمى جيش الدفاع. فصار يضيف كل يومٍ إلى جرائمه في عمله مع عصابات القتلة، جرائم أخرى يرتكبها في تعذيب أولاده. وكما يقول مصطفى واصفاً أباه: "كان يعذّبنا كلّ يوم، ويشبّح علينا. وبس يزعل من واحد يقتل الكل". لا يدرك مصطفى معنى كلمة تشبيح، وما يعرفه عنها أنها ترتبط بوالده سيء السمعة والأخلاق بحسب ما يذكر كلّ من يعرفه. ويضيف مصطفى،
بعد عبثٍ قصيرٍ بشاشة الكمبيوتر الموضوع أمامه في مقرّ الكتيبة: "مرّة لما أخوي الكبير ما فعل يشتغل بالصناعة كهربو، عذّبه بالكهربا".
كان الأب سمساراً في مزادٍ للدراجات النارية، يشرب الخمرة كلّ يومٍ ويتذمّر من المظاهرات. وبحسب ما يقال كان مخبراً أيضاً، ويؤيّد هذه المقولة أنه تطوّع في جيش الشبّيحة عندما سنحت له الفرصة وأصبح في أمانٍ نسبيٍّ من عقاب الثوار. وهناك، في حيّ الجورة، أجبر أولاده على العمل في بيع الخبز وهو يقول لهم: "من وين أطعميكم؟... لازم تشتغلون". وهذا الشغل يعني الخروج من البيت بعد منتصف الليل، والمرور من حواجز المخابرات وكثيرٍ من المغامرات في ظروفٍ شديدة الخطورة. وذات يومٍ، وبحسب ذاكرة الطفل الذي أصبح يتكلم مثل الكبار ويبكي بصمتٍ مثلهم: "ضيّع أخوي الكبير المصاري واحنا رايحين عالفرن. قلبنا الدنيا، دوّرنا عليها بكل مكان، وسألنا كل الناس، وما لقيناها. ولما رجعنا عالبيت دري أبوي... فوراً فوّتنا على غرفة وبلّش يقتل بينا بكبل ثخين. أنا صفرنتو بعد كم ضربة، ولما قعدتو بعدين شفتو أخوتي مورّمة روسهم وعيونهم. دقينا الباب تا يفتح لنا ما فعل. قال بس أفتح راح أقتلكم النوب، لسّا ما برد قلبي منكم. واستنّيناه لما طلع الظهريّات كسرنا الباب وانهزمنا من السطوح. وكانت الهزيمة بحيل وميل سهلة". وخروجهم من الجورة كان سهلاً أيضاً، وكذلك دخولهم إلى الجزء المحرّر من المدينة. وبعد أن ذهب أخواه كلٌ إلى حال سبيله، بقي مصطفى وحده تائهاً في الشوارع، ليأخذه بعض المارّة إلى الهيئة الشرعيّة، حيث عمل في تنظيف المقرّ مقابل المأوى والطعام. عدّة أيامٍ ثم لم يلبث أن هرب بعد أن ضربه وأهانه أحد الحرّاس، ليعود إلى الشوارع مرةً أخرى، إلى أن أخذوه إلى مكانه الحالي في مقرّ هذه الكتيبة.
وليّ أمر مصطفى الجديد
يقول محمد، قائد الكتيبة التي استضافت هذا الطفل المشرّد، إنه سمع بحكاية مصطفى من أحد الجيران، وإنه تأثر كثيراً، ورحّب به على الفور بينهم إلى أن يجد أحدٌ ما في هذه الدنيا حلاً لوضعه المأساوي. ويضيف محمد أن الجيران تعاطفوا أيضاً مع هذا الطفل، فجلبوا له اللباس وقدّموا له المال.
"طلعتــــو من الصــــف الثانــــي، أكره المدرسة. وأبوي ما انزعج"، يجيب مصطفى على سؤالنا إن كان يعرف القراءة والكتابة. ويعقّب محمد أن مقاتلي الكتيبة يحاولون تعليم الطفل القراءة والكتابة، ويتركونه ليتسلى كلما أراد اللعب بالكمبيوتر، ويعاملونه كأخيهم الصغير. ويضيف محمد أنه، ومنذ اليوم الأول لوجود مصطفى، نبّه الجميع إلى احترام هذا الطفل وعدم الإساءة إليه، وأنه طرد أحد أفراد الكتيبة لأنه أهان الطفل.
حاول محمد التواصل مع أقارب مصطفى للمساعدة دون جدوى، فالنتائج مخيبة. ويتمنّى محمد أن تتقدّم جهةٌ ما لترعى هذا الطفل وتنقله إلى مكان أفضل. فهم هنا، ومهما حاولوا، لن يستطيعوا العناية به كما يجب.
يستمع مصطفى إلى كلّ هذا الكلام ولا يبدو مكترثاً به، فما يهمّه هو شيءٌ واحد؛ أن يلعب وفقط يلعب. وكانت له أمنيةٌ وحيدةٌ، حلم بها كثيراً وتحقّقت في بيته الجديد، وهي أن تكون له دراجةُ هوائيّة.