لعل أخطر ما جاء في الخطاب الأخير لبشار الأسد، الذي ألقاه أمام موظفي وزارة خارجيته، هو حديثه عن المجتمع المتجانس. الأمر الذي لاقى، بحق، اهتماماً واسعاً من المعلقين على الخطاب.

ذلك أن التجانس المقصود يستدعي صوراً من الأنظمة الشمولية في «أنقى» تجسداتها، حيث الأفراد متماثلون، مبرمجون على أعمال محددة ويستخدمون كلاماً متشابهاً يعكس فكراً موحداً يملى عليهم من مركز النظام، عبيد أو روبوتات بينها تقسيم عمل واضح: فثمة طبقة الحراس أو العسس التي تحمي القيادة وتشكل يدها الضاربة، بمثابة روبوتات مبرمجة على قمع الطبقة الدنيا، وثمة طبقة العبيد التي تمتثل للأوامر، فإن تمردت كان عقابها الموت.

لقد صور الكاتب البريطاني جورج أورويل هذا النظام، مستلهماً النظامين الستاليني والنازي، بشفافية عالية في روايته الشهيرة 1984. أما في «مزرعة الحيوان» فقد استلهم التجربة الشيوعية في روسيا عن قرب باستخدام شخصيات رمزية من عالم الحيوان.

نشرت رواية أورويل هذه في العام 1945، أي مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ثمة ثورة تقوم بها حيوانات إحدى المزارع، بقيادة الخنزير الحكيم ماجور بوصفه الأذكى بينها، ويهرب صاحب المزرعة السكير وعماله، فتصبح السيادة فيها للحيوانات. يضع ماجور المبادئ السبعة لمذهب الحيوانية animalism، ويكتبها على حائط إحدى الحظائر، فتكون بمثابة دستور يتقيد به الجميع طواعية.

هناك تنافس دائم بين مساعدَي ماجور المقربين، نابليون وسنوبول، إلى أن يموت قائد الثورة، ويطيح نابليون بسنوبول ويطرده من المزرعة ليتفرد بحكمها زعيماً أوحد، سرعان ما يتحول إلى دكتاتور، ويتم إعدام كل من يخالف تعليماته بتهمة العلاقة مع «الخائن» سنوبول.

تمضي السنوات ونابليون يوغل في حياة الترف على حساب شقاء الحيوانات التي تحولت إلى عبيد، وباتت تعمل بكد أكثر مما كانت عليه الحال قبل الثورة، وتنال طعاماً أقل. لكن «وزير اقتصاد» نابليون، الخنزير المدعو سكويلر، كان يتلو عليهم إحصاءات تؤكد أنهم يعيشون حياة الرفاهية بالقياس إلى ما قبل الثورة.

على هذا المنوال تمضي رواية أورويل في هجاء لاذع للتجربة السوفييتية البائدة، مع الشخصيات الرئيسية التي برزت فيها، كلينين (ماجور) وستالين (نابليون) وتروتسكي (سنوبول)، ومع تقنيات التطويع والاستعباد وتزوير التاريخ الموصوفة ببراعة.

ربما من المجحف لرواية أورويل، كما للتجربة السوفييتية، كما للحيوانات، إسقاط رمزيات الرواية على تجربة النظام السوري الذي تفوّق في بهيميته حتى على نفسه. لكن المغري في الأمر هو تواتر الكلام عن الحيوانات في الفترة الأخيرة، سواء في وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ«نظيره السوري» بالحيوان، أو في زجر مطرب نظام التطوير والتحديث، علي الديك، جمهوره في معرض دمشق الدولي بالقول: «هنتو بقر».

كم هي كبيرة المفارقة بين حالة علي الديك وزميله جورج وسوف الذي ظهر، قبل بضع سنوات، وهو يقبل حذاء رامي مخلوف. مفارقة كاشفة للتراتبية الطبقية في مزرعة الحيوان الأسد: فالديك ينتمي إلى طبقة الخنازير الحاكمة، وفقاً للرمزية الأورويلية، في حين ينتمي «سلطان الطرب» إلى طبقة البقر رغم كل شعبيته المحلية والعربية. ومن علياء منصته الطبقية هذه يرى الديك جمهوره السوري بقراً يضربهم مرافقوه الأمنيون، قبل إعادتهم إلى دمشق في شاحنات مخصصة لنقل الدواب. فثورة المزرعة، التي قامت على مبدأ المساواة بين جميع الحيوانات، وصلت إلى الاكتفاء بمبدأ وحيد ينص على أن «جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها»، حسب التعبير البديع لأورويل.

عرف السوريون، منذ سنوات وعقود، كيف يراهم النظام، لكن وقاحته في إعلان ذلك على الملأ تبقى مثار دهشة صادمة. ذلك أن الأنظمة الدكتاتورية أو الشمولية أو حتى البهيمية، في جميع التجارب المشابهة، تحافظ، في خطابها العلني، على نوع من المخادعة الماكرة إذ تسمّي العبد وطنياً مخلصاً، والشبيح بطلاً، وهكذا. أما أن يتباهى الحيوان بأنه نجح، بعد قتل وتشريد ملايين السوريين، في الحصول على مجتمع متجانس، أو أن يقول مطربه للجمهور إنهم بقر، فهذا يشكل سابقة تسجل في سجل الأنيماليزم.