الضلع الأول: في فقه المسرّة
سيمكننا دائماً أن نسخر من كلّ شيء، سنختصر النعوت إلى مفرداتٍ لا يفهمها سوانا، وسنحمّل الأسماء ما بعد معانيها.
في دير الزور ثمة أدواتٌ لغويةٌ خاصّةٌ للسخرية، أكثرها مغرقٌ في البذاءة، وقليلها يتوخى الحشمة لكنه يكفي لأداء المهمة في حضور من يجب أن نكون حذرين بكبح جماح ألسنتنا أمامهم. وكحال أيّ مجتمعٍ متمدّنٍ هناك أيضاً تورياتٌ لا يفهمها ويتقنها إلا من ولد ناطقاً بتلك اللهجة الخشنة. وهي لا تقف عند حدود الآخر ووجوده المعرّض لفهم "الآخر" الخاصّ، بل تعود لتسقط على الذات الساخرة نفسها.
نحن نوسع أنفسنا نقداً لاذعاً. وقد نستاء إن لم يتجاوب من نسخر من حالنا أمامه بضحكةٍ أو إضافةٍ تعمّق المعنى وتؤكّد الانتماء إلى الحال الشخصيّ المتروك طوعاً لسياط الكلام الملغز، لا بدّ أن يكون جزءٌ مني فيك كي يمكنني مواصلة تسليتك الودودة بما أراه... "حظّي الفاين".
ألم تكن دير الزور من أبرع المدن في التظاهر ضد الأسد وأسرعها قطعاً مع زمان ما قبل الثورة بسيلٍ من الهتافات التي لم تترك خطّ رجعة؟ هو انقلابٌ في صورة مسيرات الإرغام أيام حكم الأسد الأب بهتافاتها المحوّرة بدافع اليأس إلى فعلٍ يقطع كلّ علاقةٍ كانت مع زمان اللاجدوى الأسديّ.
الضلع الثاني: في فنّ الغضب
لا نضرب بتكتيكٍ مدروسٍ غالباً، الهدف الأوّل هو إشغال الخصم بآلامه، ثم سيكون هناك متسعٌ من الوقت لوضع خطة إنهاء المعركة أثناء احتدامها.
القتال عادةٌ وليس موهبة، وهو ما يجعل كلّ ما يمكنه إلحاق الضرر أداةً متاحة. وفي الشجار الديريّ يكون الأغلى والأخطر هو أولّ الاسلحة، فنحن نستخدم رؤوسنا وجباهنا منذ اللحظة الأولى ضد رأس وجبهة عدوّنا.
ألا يفسّر هذا سرعة انتشار القتال في المدينة بعد أولّ اجتياحٍ أسديٍّ في صيف 2012؟ كانت فروع المخابرات وقطعات الجيش داخل الدير وعلى أطرافها هدفاً لمجموعات الجيش الحرّ الناشئة، وصارت شوارع المدينة متحفاً لخردة الدبابات سريعاً، بينما كانت مدفعية الجبل تصلي الأحياء والأموات بقذائفها.
الضلع الثالث: ليبرالية عباءة الحبر
لا سبيل لإقناع عجوزٍ ديريةٍ بما لا تريد. حتى وهنّ الآن مشرّداتٌ بين منافٍ متكرّرةٍ وديرين محتلتين من داعش والأسد، فهنّ يجدن دائماً وسائل إيصال الشيفرات الاجتماعية التي تجعل دير الزور مكاناً قد يصلح لعودة الحياة إليه يوماً ما.
هنّ رأس هرم العلاقة بين أجيال المدينة، وهنّ هيئة التنظيم الأكثر فعاليةً لمسار الحياة وقوّتها وأسرارها وفضائحها، هنّ القادرات وحدهنّ على فرض جدول يوميات المدينة حتى تحت القصف.
سيظلّ مقاتلو الجيش الحرّ -من بقي حيّاً منهم- يذكرون المهمة المستحيلة لفرض حظر تجوّلٍ في أسواق المدينة ليلاً كي يمكنهم مواصلة القتال بثقة عدم تحوّل نساء الدير إلى دروعٍ بشريةٍ يحتمي بها عناصر المخابرات... وسيصعب تفسير مشاعر مسلّحٍ غاضبٍ يتلطّى لحاجزٍ عسكريٍّ وهو يتلقى نظرة غطرسةٍ من وراء عباءة حبرٍ لا يملك من أمره شيئاً سوى انتظار مرورها.
الضلع الأخير: نعي سرادق الهزيمة
سقطت آخر قلاع الأمل، إنّه وقتٌ مخيفٌ يمرّ في الشوارع الفاصلة بين ضفتي مدينةٍ مدمّرةٍ ومحاصرة. مقتلةٌ على الجانبين، قصفٌ وجوع، عجزٌ كاملٌ لمدينةٍ تنزف أهلها كلهم للمرّة الرابعة خلال خمس سنوات.
في هذا الخواء المسوّد على جانبيه، تبخرت الرغبة العميقة في السخرية؛ بعد أن بات الجميع في "واحد" طفل جائع وخائف و"واحد" أب عاجز عن كسرة الخبز وحبة الدواء.
لم يعد للديريّ العاديّ سلطةٌ على أدوات غضبه وهو يخيّم بذراعيه على كومٍ من اليأس والنكران والعزلة بين فكي ملزمة الجوع والقهر... صار عليه أن يضرب رأسه وجبهته بالمستحيل لا ليغرق عدوّاً في آلامه بل ليتلقى جزءاً من آلام حبيبةٍ مريضةٍ أو ولدٍ يريد قطعة حلوى.
عباءات الحبر الفاخرة صارت خياماً تستر العظام المنهكة والحزن العميق. العجائز لا يجدن ذواتهنّ المترفعة إلا إزاء "الويلاد" الذين مهما كان نوع السلاح بين أيديهم يظلون أبناء رجالٍ ونساءٍ تعرفهنّ العجوز العابرة أمام حاجز الجيش الحرّ، وهذا ليس الحال أمام غرباء الشبيحة وداعش القتلة.
هل هزمت دير الزور حقا؟
ليس سؤالا يمكن طرحه... هي ذروةٌ أخرى في رحلة قطع العلاقة مع ما كان دون وجود بديل.. ألم نقل إننا نبدأ الشجار عادةً دون تكتيكٍ مدروس؟
ضربناه برأسنا... وعندما سنفيق من دوارنا المنهك ونجده واقفاً قد نضربه برأسنا مرّةً أخرى ثم نبحث عن عبارةٍ بذيئةٍ نصف فيها أيام الأسد وداعش.