محلات الصرافة..
مهنةٌ جديدةٌ تخفي وراءها لعبةً كبيرة
شاخصاتٌ كثيرةٌ تستوقف المرء وهو يتنقل في الأسواق هذه الأيام، لكن أكثرها هي تلك التي تشير إلى بيع وشراء العملات الأجنبية، وعلى رأسها اليورو والدولار والريال، العملات الأكثر تداولاً في السوق السوداء، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: ما هو السرّ وراء هذا الانتشار السرطاني لمكاتب الصرافة؟ ومن هي الفئة العاملة فيها؟ ومن يحدّد سعر الصرف الذي قد يتباين من مدينةٍ إلى أخرى؟
محالٌّ تمارس الصرافة كمهنةٍ إضافية
من النادر أن يصادفك محلٌّ متخصصٌ ببيع وشراء العملات الأجنبية، إذ عادةً ما يتداول محلٌّ كهذا مبالغ ضخمة، وربما يكون لبعض هذه المحلات دورٌ في تحديد سعر عملةٍ ما في السوق المحلية. ولكن المفارقة أن ترى محلاً لبيع السجائر يعلن، من خلال كرتونةٍ بسيطة، عن قيامه بالصرافة أيضاً. ولفهم هذه الظاهرة الغريبة التقينا بأبي مشعل، وهو صاحب هذه الدكان التي تجمع بين مهنتين لا تمتّان لبعضها بصلة، الذي قال: عندما تدرك أن مهنة الصرافة لا تحتاج إلا لشيءٍ من السيولة المادية، إضافةً إلى ذكاء وحنكة من يعمل بها، وفهمه لحركة الأموال في السوق،
وبراعته في التنازل على جزءٍ بسيطٍ من أرباحه في سبيل جذب زبائنه؛ حينها سيتراجع لديك هذا الإحساس بالتناقض بين مهنتي بيع التبغ والصرافة، اللتين أزاولهما سويةً.
ويستطرد أبو مشعل في سرد نماذج مختلفة تبيّن ممارسة الصرافة كمهنةٍ إضافية: هناك محال لبيع الإكسسوارات النسائية، وأيضا محال للبقالة تعمل في تصريف العملات. بل إن مغريات الربح دفعت ببعض الحلاقين لدخول ميدان سوق الأموال أيضاً.
من يتحكّم في الأسعار؟
يتداول الناس قصصاً كثيرة عن الطرف المتحكّم بأسعار العملات في السوق المحلية، استطاع السيد جمال العوام اختصارها لنا بالقول:
ـ تجار عملاتٍ عراقيون وراء الكواليس: يتكلم البعض عن أن كلّ حركة العملات الأجنبية يتم توجيهها من تاجرٍ أو أكثر في العراق، لهم جباةٌ يتمثلون بمحلات الصرافة الضخمة في سوقنا المحلية، يتواصلون بشكلٍ يوميٍّ مع هؤلاء التجار.
ـ تجار النفط هم المتحكم الأكبر بأسعار السوق: يمتلك تجار النفط الكبار، سواءً من استولوا على بعض آبار البترول، أم من ينقلون كمياتٍ كبيرةٍ منه في صهاريج ضخمةٍ لتوزيعه على التجار الصغار؛ النسبة العظمى من العملات الأجنبية الموجودة في المناطق المحرّرة. إذ يقومون ببيع منتجاتهم النفطية للتجار القادمين من محافظاتٍ أخرى بالعملة الصعبة، الأمر الذي يجعلهم يكنزون كمياتٍ كبيرةً من اليورو والدولار وغيرهما من العملات المهمة. فبذلك، ومن خلال تداولهم أو عدم تداولهم لهذه الأموال في الأسواق المحلية، يكون لهم دورٌ فاعلٌ في ارتفاع أو انخفاض الأسعار في هذه الأسواق، ولكن ليس إلى درجةٍ تؤثر على محافظاتٍ أخرى بحيث تحدث تغييراً في سعر الدولار في كل أنحاء سورية. وأيضاً لن يتفق كل تجار النفط على سياسةٍ محدّدةٍ في تداول العملة الصعبة، إذ تبقى عمليات المشاركة هذه مسألةً فرديةً تختلف بين تاجرٍ وآخر.
ـ النظام، بتلقيه الدعم من حلفائه، أو بضخّه جزءاً من احتياطيّ البلد من هذه العملات في الأسواق، يعمل على خفض الأسعار حتى في السوق السوداء: يردّد البعض هذه الفكرة، وخصوصاً عندما يلاحظ انخفاضاً كبيراً في أسعار صرف العملة الصعبة. ولكن لا يكفي في هكذا روايات التركيز على محاولة النظام دعم الليرة السورية لتحافظ على قيمتها من الانهيار، بل يتعدى الأمر ذلك فيضاف إلى هذه الرواية أن أثرياء النظام الكبار يتحكمون بالسوق المحلية من خلال عملائهم السرّيين، بطريقةٍ تزيدهم ربحاً وتؤدي إلى خنق الأسواق في المناطق المحرّرة.
حتى وإن افتقرت هذه النظريات إلى التحليل الاقتصادي العلمي، إلا أن كلّ واحدةٍ منها تحمل شيئاً من الصحة. ولعل لكلّ هذه العوامل مجتمعة، وعوامل أخرى مثل الوضع الاقتصادي المتردّي لبلدٍ ينزف تحت ويلات الحرب، عظيم الأثر في هذا التذبذب الكبير في أسعار العملات.