منذ أن خرجت الثورة عن عفويتها الأولى، وهو خروجٌ طبيعيٌّ فرضه طول المدّة وتكاثر المهامّ والحاجة إلى التنظيم، صار فيها «مسؤولون» وقادةٌ على مختلف المستويات وفي مناحٍ واختصاصاتٍ متعددة. ففي البداية احتاجت التنسيقيات إلى مدراء، وإلى مسؤولي مكاتب أو قطاعات، ثم احتاج العمل العسكريّ إلى قادة كتائب، فألوية، فعملياتٍ وجبهات، كما احتاجت الإدارات (المجالس المحليّة) إلى الهيكل نفسه من المسؤولين وأمناء المكاتب. وبالتوازي مع ذلك كله برزت الحاجة إلى تمثيلٍ سياسيٍّ للثورة، فنشأت الكتل، التي تشكّل منها المجلس الوطني، فالائتلاف، اللذين تعاقب على رئاستهما ومكاتبهما أكثر من شخصٍ وتيار، كما هو معروف. وأخيراً ظهرت الحكومة المؤقتة، لتحاول تسيير شؤون البلاد والعباد، بقدر.
ولا يخفى على أيّ مشاركٍ في الثورة، أو متابعٍ لها، مقدار ما تعرّض له كل من تسنّم «منصباً» مما ذكرنا من لومٍ واتهاماتٍ وشتائم... إلخ، من أدنى سويّات هذه المهامّ وحتى أعلاها. كما لا يخفى أن اللائم عادةً ما يرى في نفسه الأهلية الكاملة التقويم، وأن ما فات هذا الناشط أو القائد العسكريّ أو المسؤول السياسيّ كان أمراً بدهياً لا ينبغي لمن كان في مثل موقعه أن يفوته، وأننا بسبب ذلك قد خسرنا موقعاً أو معركةً، على الأرض أو في أروقة السياسة أو في مجالات الإدارة أو الخدمات أو الإعلام.
من وجهٍ أول، يشير ما سبق إلى عافية السوريين من عبادة الفرد وغريزة اتباعه من قبل قطيعٍ من المؤيدين السادرين، على ما كانت أيام حكم الأسدين، وسواهما. وهو أول أهداف الثورة التي نادت بحرية التفكير والنقد ومساءلة أولي الشأن، مما يحيل هذه السلوكات على الجانب الإيجابيّ، من حيث المبدأ، ولوهلةٍ أولى سريعةٍ ولكنها صحيحة. أما من جانبٍ آخر، فإن عدم انبناء هذا النقد – في معظم الحالات – على إحاطةٍ كافيةٍ بظروف الحال وواقعه، وخروجه عن دائرة التصويب المطلوب والمحمود إلى الانتقاص السهل والمجانيّ؛ هو دليل أمراضٍ في النفس تأبى إلا أن تمدّ رأسها، لحسدٍ شخصيٍّ أو لدوافع الغرور وادّعاء كمال الذات مقابل النقص الثابت في إمكانيات الآخرين ومعارفهم.
وإذا عدنا إلى نقطة البداية، ينبغي علينا أن نتذكر أننا جميعاً قد قدمنا من دون خبراتٍ تذكر، نتيجة عهود ظلام البعث من جهة، ولتكاسلٍ أصيلٍ فينا من جهةٍ أخرى. وأن هذا «المسؤول» هو مثلنا ببساطة، قد ولّته أيام الثورة، أو ولّى نفسه، مركباً صعباً لم يكن يعدّ نفسه له في الحقيقة. وبالتالي فربما لو كنا مكانه لارتكبنا الأخطاء ذاتها، أو أشدّ منها بكثير، نتيجة نقص تأهيلنا أيضاً، الذي لا تصلحه – بالطبع – متابعاتنا لنشرات الأخبار خلال ما يقرب من ثلاث سنواتٍ من عمر الثورة.
أما الأهمّ، فهو أن الإمكانيات المتوافرة بين يدي الثورة والثوّار قليلة، بل قليلةٌ جداً، في مختلف الجوانب المادية والعسكرية والإغاثية والمساندة الدوليّة والإقليميّة. وهذا سببٌ هامٌّ في تعثر جهود القائمين عليها هنا وهناك، ولا يرجع الأمر بالضرورة إلى ضعف مهاراتهم الشخصية، بل في كثيرٍ من الأحيان إلى قلة ما بين أيديهم من أوراق ضغط، لأسبابٍ كثيرةٍ منها تشرذمنا الداخليّ، ومنها تلكؤ أصدقائنا وترددهم، وثبات وتماسك الحلف الذي استقرّ عليه النظام أخيراً داخلياً وخارجياً، مما يجعل تأثير مهارات الأفراد على تغيير الوضع محدوداً للغاية. وبعض هؤلاء يبذل قصارى جهده بالفعل، دون أن يصل إلى نتيجةٍ من الدوران في حلقةٍ مفرغةٍ من التجاذبات الدولية والإمكانيات العسكرية التي لا تمنح القدرة على الحسم.
ليس المقصود من ما سبق إعادة رفع «مسؤولينا» البسطاء إلى سويّاتٍ تتعالى عن النقد، بل الهدف هو التبيّن في المسألة التي نريد تناولها، وجمع المعطيات الكافية عنها، لننقد من نشاء بناءً على معلوماتٍ جادّةٍ وتحليلٍ نشتغل عليه. فإن لم نكن نملك الوقت والجهد الكافيين للإحاطة بالمسألة فلنلتمس لإخواننا أعذاراً، فأيّ حملٍ من أعباء الثورة الآن حملٌ ثقيل. وإذا كان بعض من يتسنّمون المراكز ويحتلون الكراسي مضطربين وغير فعّالين كما ينبغي، فليس الحلّ في تأنيبهم السهل ودون مسؤولية، وكأننا نراقب مباراة كرة قدم، ونوجّه تعليماتنا لهذا اللاعب أن يمرّر لذاك، أو أن يسدّد من تلك النقطة...
ثورتــنا أمانة، فلنــجتهد أن نؤدّيـــها بأفضل وجه.