نشر الباحثان التركيان غونش مراد تزجور وصبري جفتجي، في العدد الأخير من مجلة فورين بوليسي الأميركية، مقالةً بعنوان "الراديكاليون الأتراك" قدَّما فيها الملامح الاجتماعية للجهاديين الأتراك الذين ينضمّون إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وعلاقة ظهورهم بالديناميات الاجتماعية الجديدة في تركيا في عهد حكم حزب العدالة والتنمية.
ترتسم صورة الجهاديّ التركيّ الاجتماعية، وفقاً للبحث الميدانيّ الذي أجراه تزجور وجفتجي، كما يلي: جميع الأتراك الذين التحقوا بالجهاد ذكور، فيهم محامون وتجارٌ وحرفيون وطلابٌ جامعيون وموظفون في القطاعين العامّ والخاصّ. 31 من بين 112 جهادياً تمكن البحث من الوصول إليهم متزوّجون ولهم أولاد، و37 منهم عزّاب. متوسط السوية التعليمية لهم يفوق المتوسّط العام الوطنيّ، وكثيرٌ منهم يعملون في أعمالٍ مستقرّة. متوسط عمر الجهاديّ التركيّ لحظة التحاقه بالجهاد هو 27 عاماً. ونصفهم من كرد تركيا.
لا تتفق هذه النتائج مع التفسيرات النمطية التي تردُّ انضمام الشبّان إلى المنظمات الإسلامية المسلحة إلى انعدام الأفق لدى شريحةٍ شابةٍ حُرمت التعليم وسبل الارتقاء الاجتماعيّ، عاطلةٍ عن العمل ومحرومةٍ من ثمار التقدّم الحضاريّ ووسائل الاستهلاك. فالسوية التعليمية لمن شملهم البحث من الجهاديين الأتراك مرتفعةٌ نسبياً، وقسمٌ كبيرٌ منهم متزوّجون ولهم عملٌ وحياةٌ عائليةٌ مستقرّين، ومتوسط العمر عند الالتحاق بالجهاد مرتفعٌ، بالمقارنة مع تجارب منظماتٍ مسلحةٍ غير إسلاميةٍ (حزب العمال الكردستانيّ مثلاً). يمكن اعتبارهم عموماً مما يسمى "الطبقة المتوسطة" التي تميل إلى الاستقرار والاستمتاع بالحياة.
أضف إلى ذلك أن الصورة النمطية المألوفة عن الإسلام التركيّ تقول إنه "معتدلٌ" يستند إلى تراثٍ صوفيٍّ قويٍّ وعريق. حتى الإسلام السياسيّ، الذي برز منذ مطلع السبعينات، لم يبتعد كثيراً عن هذا الاعتدال، وتمكن من إيجاد موطئ قدمٍ له تحت مظلة الشرعية السياسية البرلمانية، بخلاف الإسلام السياسيّ في البلدان العربية، الذي لم يخل تاريخه من العنف والتشدد الإيديولوجيّ. فكيف نفسر، إذن، انضمام أعدادٍ متزايدةٍ من الأتراك إلى المنظمات الجهادية في سوريا؟ يذكر أن رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو قال، في أحد تصريحاته، إن عددهم نحو ألف شخص.
إليكم هذه النتائج من واحدةٍ من استطلاعات الرأي الحديثة التي تمت في تركيا:
ارتفعت نسبة التأييد لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في المجتمع التركيّ، من 1.3% في شهر أيلول إلى 4% في شهر تشرين الأول، وفقاً لنتائج الاستطلاع الذي قامت به شركة متروبول التركية. من المحتمل أن هذا الارتفاع يشير إلى نوعٍ من "التضامن السنّي" في مواجهة استمرار الغارات الجوية التي تنفذها قوّات التحالف الدوليّ ضد مواقع داعش في العراق وسوريا. ورداً على سؤال: "هل تؤيد ممارسات داعش في سوريا والعراق؟" أجاب 3.5 بالمئة، في شهر أيلول الماضي، بالإيجاب، لترتفع هذه النسبة إلى 7.1% بعد شهرٍ واحد. ولنا أن نتوقع ارتفاعاً مطّرداً في نسب التأييد المذكورة أعلاه.
يقوم تفسير الباحثين التركيين، تزجور وجفتجي، على أن عهد حزب العدالة والتنمية، الممتدّ منذ عام 2002، وقد تميّز بارتفاع معدلات النموّ الاقتصاديّ وانفتاح النظام السياسيّ على المجتمع وتغليب السياسة المدنية على الوصاية العسكرية، قد جلب معه نتائج جانبيةً غير متوقعة. فـ"سياسات حكومات العدالة والتنمية التي هدفت إلى استرضاء مؤيّديها من البيئة المتدينة المحافظة، وإلى زيادة التدين في المجتمع، أدّت إلى ارتفاع مستوى الحراك في المنظمات الإسلامية المدنية. وطالما لم تصطدم هذه المنظمات بسلطة حزب العدالة والتنمية، كان بوسعها أن تفعل ما تشاء. وهذا ما سهّل من تعزيز ميلها إلى التشدد الإيديولوجيّ. وكلما ضعفت المؤسسات الديموقراطية، تطورت العصبية الإسلامية خارج أيّ ضبط"، كما يقول الباحثان.
وجاءت سياسة الحكومة المؤيدة للثورة السورية بلا قيدٍ أو شرط، لتقدّم أرضيةً مشجعةً للتيار السلفيّ الجهاديّ ليتمدّد أفقياً داخل البيئات الإسلامية في المجتمع التركيّ. وقد سبق للكاتب والباحث روشن تشكر، صاحب المرجع الكلاسيكيّ حول الحركات الإسلامية في تركيا، أن حذر منذ شهر شباط 2014 من زيادة نفوذ التيار السلفيّ في تركيا في السنوات القليلة الماضية.
سياسة الحدود المفتوحة مع سوريا قدمت، من جانبها، التسهيلات اللوجستية الكافية لحراك الجهاديين عبر الحدود، سواء منهم الأتراك أو الأجانب من جنسيات مختلفة.