لماذا ساحة الكرامة؟

السويداء 24

لم يكن اعتصاماً، أو وقفةً تضامنية، تقوم الأجهزة الأمنية بتفريقه بعد وقت قصير، أو مظاهرة طيارة في الأحياء والشوارع الخلفية، كما جرت العادة لسنوات خلت. فقد كان امتلاكُ ساحة وسط المدينة حلماً بعيد المنال حمله متظاهرو السويداء ونخبها المعارضة، منذ انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، حلم التظاهر والاعتصام في الساحات العامة، حال باقي المحافظات المنتفضة ضد نظام الأسد، وكان يوم 17 آب 2023 لحظة نفاذ صبر لدى أهالي السويداء، فنزلوا إلى "ساحة الكرامة" وسط المدينة، ولم يخرجوا منها. لم تكن رمزية هذا الاسم في سياق الثورة السورية لتخفى على النظام، فهو الترجمة المحلية للحرية، الاسم الذي غالباً ما أطلقه المتظاهرون على ساحاتهم في المدن السورية الثائرة. وفي السياق المحلي، تحمل هذه المفردة إرثاً عميقاً لدى جماعة لها تاريخها في محاربة الاستبداد منذ سكنت تلك المنطقة الجبلية قبل بضعة قرون.

في المصادر القديمة لتاريخ السويداء، يرد اسم "الميدان" للمربع الذي يحاذي التجمعات المائية الأكبر في المدينة: بركة الحج، مَطْخ السويداء، بركة التربة.

وحضرت الساحة في مفاصل سياسية هامة عاشتها محافظة السويداء خلال العقود الماضية، فعندما زار جمال عبد الناصر السويداء عام 1960، احتشد عشرات الآلاف من أهلها في الساحة وصولاً إلى مبنى المحافظة شرقاً، ملوحين للزعيم العربي الكبير الذي وقف إلى جانب سلطان الأطرش على شرفة السراي الحكومي. وبعد سنوات قليلة من زيارة عبد الناصر، حلّق الطيران الحربي فوق الساحة بأمر من وزير الدفاع "حافظ الأسد" عام 1966، مهددًا بقصف المدينة بعد أن حشد الضابط "سليم حاطوم" ابن محافظة السويداء عدداً من المدرعات العسكرية في ساحة الميدان، وطوَّقَ مبنى الحرس القومي محتجزاً رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي وصلاح جديد الأمين العام المساعد لحزب البعث. ليُجبَر بعدها "حاطوم" على الفرار واللجوء إلى الأردن.

وفي صيف 2020 توجه أحد المحتجين الشباب إلى القاعدة الباقية من تمثال الأسد الأب وكتب عليها باللون الأحمر عبارة "ساحة الكرامة". الاسم الذي بات يطلق رسمياً على ساحة السير مع انطلاق الحراك الشعبي الأخير، كـ مركز رئيسي للتظاهر والاحتجاج. بعد أن كانت لعقود طويلة، ساحةً للسلطة، فخلال التسعينيات وحتى ما بعد العام 2011، كانت أشبه بـ مربع أمني محاط بالحواجز الاسمنتية من جهة مبنى المحافظة والأمن الجنائي، مع الحضور الثقيل لصور الأسد العملاقة على واجهات المباني الحكومية المحيطة بالساحة، ولتمثاله الضخم الذي وُضع مطلع الثمانينات بارتفاع ثلاثة أمتار، مقابل مبنى المالية. يدير ظهره نحو مبنى الحرس القومي، الذي شهد في الماضي مغامرة سليم حاطوم الفاشلة، ناظراً إلى وسط المدينة القديمة، مرتدياً عباءة تشبه التي يلبسها الزعماء التقليديون، التمثال الذي أسقطه المحتجون في 4 أيلول 2015 كأول رد فعل من قبل المتظاهرين الغاضبين - ليلةَ اغتيال الشيخ وحيد البلعوس مؤسس حركة رجال الكرامة، ومعه 30 آخرين بتفجيرين منفصلين، بإشارة مباشرة لاتهام النظام بالوقوف خلف عملية الاغتيال.

ومنذ عام 2015، بدأت تندلع تباعاً موجات متلاحقة من الاحتجاجات في المدينة، وليس بعيداً عن محيط الساحة. على شكل حملات قصيرة بدأت بـ حملة "خنقتونا" من أمام مبنى المحافظة، ثم بعدها بعام حملة "حطمتونا" ثم في عام 2020 موجة الاحتجاج الأكبر تحت عنوان "بدنا نعيش" التي اتخذت من ساحة وسط المدينة مركزاً لها. وارتفعت خلالها شعارات إسقاط النظام.

أما الموجة الرابعة صيف العام 2022، فقد أتت كهبة شعبية ــ كما يصر الأهالي على تسميتهاــ ضد راجي فلحوط قائد الميليشيا التابعة لأجهزة المخابرات والمتورطة بأعمال الخطف والقتل وتهريب المخدرات، واليوم، وبعد أكثر من عام على حراك السويداء في ساحة الكرامة، الذي يجمع بين مختلف الشرائح الاجتماعية، والذي يأتي بعد 12 عاماً من الويلات التي شهدتها سوريا، وحجم العنف غير المسبوق الذي واجه به النظام المناطق الخارجة عن سيطرته، وما تسبب به من دمار لحواضر سوريا وأريافها، وخلف مئات الآلاف من الضحايا وملايين اللاجئين داخلياً وخارجياً، لعله من الملفت وجود سوريين ما زالوا مؤمنين بضرورة التغيير السياسي للنظام الحاكم بالطرق السلمية. ورغم فقرهم وتعبهم، أعادوا تسمية ساحتهم فصار للكرامة ساحة. تلك التي تغيّر اسمها مراراً مع تغيّر الأزمنة، لكنها حملت دوماً دلالاتها الخاصة التي تعكس روح المجتمع، وتاريخه النابض بالمقاومة. منذ كانت ساحة "الميدان" الذي كانت تقام فيه عروض الخيل ومهارات الفروسية، ثم مركز حيوي ونقطة استقطاب في عهد الانتداب الفرنسي الذي أنشأ حوله عدداً من المباني الإدارية، كان أهمها بناء السراي الحكومي عام 1932 إلى الشرق من الميدان، كمركز إدارةٍ للجبل، والذي سيتحول إلى مبنى المحافظة اليوم. وأول مشفى في المدينة في الجهة الشمالية، الذي تحول بدوره إلى مدرسة الفتاة أهمّ وأقدم مدارس المدينة. ليتحول الاسم مع انتشار السيارات والحافلات في الخمسينيات إلى "ساحة السير"، وبعد كل تلك الحقب، يأتي اسم "الكرامة" ليحمل إرثاً راسخاً في الذاكرة الجمعية لنزوع أهالي السويداء إلى الحرية والكرامة، ويعيد إحياء الساحة كمكان للتجمع والاحتجاج والتغيير.