إثر ظهور صورهنّ مع بشار الأسد مؤخّراً، شنّ الكاتب المعارض عبد الرزاق عيد هجوماً عنيفاً على تابعاتٍ للمدرسة القبيسية، وأطلق عليهنّ اتهاماتٍ جنسيةً غير لائقة، في مادّةٍ صحفيةٍ ردّ عليها عضو مجلس الشعب السوريّ «المنشقّ» محمد حبش.
في دمشق، في ثمانينيات القرن الماضي، حين استباحت مجاميع أتباع حافظ الأسد، وشقيقه رفعت، المدينة، وهدّدوا هويتها وأنماط الحياة فيها، في ما يشبه الغزو؛ أحس المجتمع الدمشقيّ بالخطر. إنه تهديدٌ غاشمٌ لن ينجو منه سوى من يحتال عليه. وكم احتال الدمشقيون على غزاة، مما طبع أغلبية سكان هذه المدينة العريقة بطابعٍ أقرب إلى التقية، يجاملون فيه الحاكم اتقاءً لشروره. هذا تكيّفٌ محضٌ مما يفعله المغلوبون عادةً، تساوقاً مع العيش تحت قهر الغالب عسى أن يترك المغلوبين وشأنهم.
هذا، تقريباً، ما فعلته الحاجة منيرة القبيسي، الداعية الدينية المنفصلة عن شيخها أحمد كفتارو، مفتي سوريا في ذلك الوقت. كانت منيرة، المولودة عام 1933، امرأةً في منتصف العمر، تجد في نفسها الإرادة والقدرة على صنع شيءٍ ما. وكانت ذات رؤيةٍ خاصّةٍ ميّزتها عن سواها من الداعيات التقليديات، إذ آمنت بضرورة نقل العمل الدعويّ النسائيّ إلى خارج المسجد، تمتيناً لهوية المدينة المحافظة، ومن دون أن تتحدّى غطرسة النظام، المتمثلة آنذاك بنزوات رفعت الأسد ونموذج المرأة السورية التي أراد إنتاجها في دروس التربية العسكرية ومظليات شبيبة الثورة، وغير ذلك من أعمال القسر التي وصلت حدّاً متطرفاً بنزع الغطاء في الشوارع من على رؤوس المحجبات. وإلى جانب رفعت كانت أجهزة الأمن تتربص بكل من يفكر في القيام بأي نشاطٍ عام، ولا سيما بعنوانٍ إسلاميّ.
وفي خطوةٍ تجمع الدعوة بالتعليم بالتجارة اتجهت الحاجة منيرة إلى حقل التعليم الخاصّ، فاشترت الجماعة القبيسية رخصاً قديمة لمدارس خاصّةٍ متعثرة، وأعادت إطلاق العملية التعليمية فيها من جديد. وبأسلوب الجماعة، الصارم واللطيف معاً، في الإدارة والتربية والتعليم، حققت هذه المدارس فور انطلاقها نجاحاً لافتاً، برز بسمعةٍ مدرسيةٍ ممتازةٍ جعلتها في أعلى المراتب من الناحية التعليمية. وكان هذا مثار انتباهٍ دائمٍ لعيون المخابرات التي ضيّقت على الجماعة مراتٍ عدّة. لكن ابتعاد القبيسيات عن السياسة، وإعلانهنّ ذلك كمنهجٍ أصيلٍ في دعوتهنّ، خفّف من حدّة هذا التضييق، من دون أن يزول الخطر تماماً. الذي كان يشتدّ في بعض الأحيان، كما حدث في النصف الثاني من الثمانينيات، وعام 2010 في نهاية العقد الماضي، حين تعرّضت الجماعة لحملات تشهيرٍ عنيفةٍ من قبل صحفيين وكتابٍ «تقدميين» من النمط المحبّب لزمرة الأسد. وفسّرت الحملة الأولى ضمن سياقها القمعيّ العام، بعد فراغ الأجهزة الأمنية من تصفية كلّ وجودٍ سياسيٍّ مخالف، وضمن الإطار الاستئصاليّ الذي استهوى كتاباً يساريين لم يكونوا منزّهين عن الملمح الطائفيّ. ويمكن للحملة الثانية أن تفسّر في سياق «التحديث والتطوير» على طريقة بشار الأسد، التي ضاقت ذرعاً، وفجأةً، من الوجود السنّيّ التقليديّ، فانبرى كثرٌ يدافعون عن نقل المنقبات من عملهنّ التدريسيّ، ومنعهنّ من الدخول إلى الجامعات، وتقييدٍ أشدّ للدروس الدينية في الجوامع، وتغيير قوانين الأحوال الشخصية، وغير ذلك. وقتها بدت القبيسيات هدفاً سهلاً لمن شاركوا في هذه الحملة، فأنتج مسلسلٌ تلفزيونيٌّ يظهرهنّ ككائناتٍ شريرةٍ جشعةٍ ومنافقة. ووجد مثقفون في النيل من القبيسيات وبيئتهنّ وسيلةً للانشغال بقضيةٍ عامة، وقد أعوزتهم القضايا التي يتيح لهم النظام الخوض فيها. (ومن المفيد هنا أن نتذكر أن عبد الرزاق عيد كتب وقتها بشجاعةٍ ضدّ منع المنقبات من التعلم والتعليم، فيما دافع «الشيخ» محمد حبش عن حقّ مؤسسات «الدولة» في منع دخول «الملثمين» إليها!).
مع اندلاع الثورة، أخذت القبيسيات الموقف الطبيعيّ لجماعة مثل جماعتهنّ، فحاولن التملّص من إبراز سلوكٍ يعبّر عن موقفهنّ تجاه ما يحدث، من دون جدوى. فلم تعد هناك مساحةٌ رماديةٌ بالنسبة إلى نظام بشار، ولا بدّ أن يقف معه كلّ من يقدر على إجباره أو الضغط عليه. لتُجلب ممثلاتٌ عن هذه الجماعة وسواها إلى خانة التبعية المباشرة له والاصطفاف في خندقه، مما دفع بهؤلاء السيدات العزلاوات إلى أن يأخذن موقفاً غير لائقٍ بهنّ، بعذر الاكراه. وبالغت بعضهنّ في إظهار الولاء إلى حدّ الابتذال، كما حدث في الجامع الأمويّ في دمشق، في إطار التحضير لانتخاب بشار الأسد.
في أيامٍ عاصفةٍ مثل هذه الأيام، وفي مدينةٍ محتلةٍ مثل دمشق، يجب أن لا يقاس كل شيءٍ بالمسطرة، وأن لا يُطلب من معلمات مدرسةٍ وربات منازل وطالباتٍ جامعياتٍ أن يعلنّ موقفاً مناهضاً لسفاحٍ مضطربٍ مثل بشار الأسد.