يمكن الحديث، بلا مجازفةٍ كبيرةٍ، عن "ظاهرةٍ سعوديةٍ" تتبلور أمام أنظارنا منذ أشهر. من المبكر الحكم على هذا التضخم السعوديّ كدورٍ إقليميٍّ وعربيٍّ آخذٍ في التشكل وفي توسيع مجال نفوذه في موازين القوى المضطربة في هذه المنطقة من العالم. جلّ ما يمكننا الآن هو وصف وتسجيل مفردات هذه الظاهرة الجديدة كلّ الجدّة، ومقارنتها بتجارب سبقتها. فقد اتسمت السياسة السعودية التقليدية بالمحافظة والحذر، واعتمد نفوذها، عموماً، على "القوّة الناعمة" المالية والأيديولوجية القائمة على ثروةٍ نفطيةٍ كبيرةٍ وعقيدةٍ سلفيةٍ (الوهابية) مع براغماتيةٍ في السياسة والعلاقات الدولية. بكلماتٍ أخرى كانت السعودية تمارس نفوذها الكبير على الدول والمجتمعات من خلال القوّة المالية والأيديولوجيا الإسلامية التي تستمدّ منها السلالة الحاكمة مشروعيتها.
تعاملت السعودية مع موجة ثورات الربيع العربيّ بحذرٍ وتوجسٍ شديدين. ويُسجّل عليها أنها أمّنت للدكتاتور التونسيّ المخلوع ملاذاً على أراضيها، كما وفرت العلاج لدكتاتور اليمن علي عبد الله صالح في مستشفياتها، وأعادته إلى صنعاء لتفاوضه على حلٍّ وسط ملغومٍ ما زال اليمنيون يدفعون ثمنه إلى اليوم. ولعبت دوراً سلبياً في الثورة السورية من خلال التشجيع على التسلح والأسلمة، من موقع خصومتها المزدوجة لنظام بشار الكيماويّ من جهةٍ، وللثورة الشعبية السلمية من جهةٍ ثانية، خشية انتقال عدوى الثورات إلى السعودية نفسها وباقي دول المنظومة الخليجية. وعلى الصعيد الدبلوماسيّ بذلت القيادة السابقة جهوداً كبيرةً في إطار الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة بحثاً عن حلٍّ وسط شبيهٍ بالحلّ اليمنيّ يوقف نزف الدم في سوريا، لكن رفض النظام الكيماويّ لأيّ حلٍّ سياسيٍّ أفشل تلك الجهود، فلم يبق أمام السعودية إلا مواصلة الدعم العسكريّ لفصائل معينة. وفي مصر استثمرت القيادة السعودية السابقة في الحنق الشعبيّ على حكم الإخوان المسلمين، فأيدت انقلاب السيسي الذي شكل ارتداداً خطيراً على ثورة 2011.
يمكن القول إن الروائز الرئيسية لتحديد السياسات الإقليمية للسعودية هي خطر التمدد الإيرانيّ، وخطر جماعة الإخوان المسلمين التي بدت بديلاً محتملاً للأنظمة الدكتاتورية في بلدان الربيع العربيّ. وهذا ما يفسر التباين السعوديّ مع المحور القطريّ - التركيّ الذي دعم الاتجاهات الإخوانية في الثورات العربية.
مع انتقال السلطة، في شباط العام الحالي، إلى الملك سلمان بن عبد العزيز، حدثت تغيراتٌ كبيرةٌ بالقياس إلى تاريخ السلالة الحاكمة، فتغيّرت نخبة الحكم بكاملها على وجه التقريب، بما في ذلك وجوهاً أبديةً كالأمير بندر بن سلطان ووزير الخارجية المزمن سعود الفيصل. ولم يمض أكثر من شهرٍ واحدٍ على هذا التغيير "الانقلابيّ" حتى انطلقت "عاصفة الحزم"، وهو الاسم الرسميّ للحرب السعودية على الحوثيين والقوات الموالية للمخلوع صالح، مع غطاءٍ من تحالف عشر دولٍ عربية، ومباركةٍ أميركيةٍ وسكوتٍ روسيّ.
وإذ طبّعت القيادة الجديدة علاقات المملكة مع كلٍّ من قطر وتركيا، انتقل الملف السوريّ، تدريجياً، إليها. وصولاً إلى تكريس الوصاية السعودية المطلقة على المعارضة بعد مؤتمر الرياض، وسط تأكيداتٍ متكرّرةٍ من وزير الخارجية عادل الجبير بأن "على الأسد أن يرحل بالمفاوضات أو بالقوّة"، وذلك في مواجهة تمسك كلٍّ من موسكو وطهران برجلهما في دمشق، وميوعة الموقف الأميركيّ والأوروبيّ من هذا الموضوع.
كانت السعودية قد تمكنت من استصدار قرارٍ من مؤتمر القمة العربيّ الأخير، أواخر آذار الماضي، بتشكيل قوّاتٍ عربيةٍ مشتركة، في الوقت الذي كانت طائرات التحالف العربيّ الذي تقوده تضرب مواقع الحوثيين وصالح في اليمن. لكن انقسام الدول العربية إلى محاور عدّةٍ حول الصراعات الدائرة في الإقليم حال دون تنفيذ القرار المذكور.
نقطةٌ أخيرةٌ لافتةٌ في السياسة السعودية الجديدة، هي عدم صدور اعتراضٍ قويٍّ منها على التدخل الروسيّ المباشر في سوريا. هناك تعتيمٌ كاملٌ على التوافقات والتباينات السياسية، في الشأن السوريّ بصورةٍ خاصّة، بين موسكو والرياض. فالعلاقات بين العاصمتين شهدت صعوداً لافتاً منذ توقيع الدول الغربية وإيران على التسوية بشأن الملف النوويّ. وظهر من ثمرات العلاقة الجديدة بين الجانبين عدم استخدام موسكو حق النقض في مجلس الأمن عند التصويت على القرار بشأن اليمن الذي منح الشرعية لعاصفة الحزم. أما في سوريا فلم يتسرّب أيّ شيءٍ عما يمكن أن يكون الطرفان اتفقا عليه وراء الأبواب المغلقة. فقط تسرّب خبر زيارة علي مملوك إلى السعودية بتنسيقٍ مباشرٍ مع موسكو.
لا تغيير كبير في الاتجاه العام للسياسة السعودية، لكن التغيير كبيرٌ في الفاعلية السعودية لفرض نفسها كلاعبٍ اقليميٍّ كبير. فباتت لا تتردد في التدخل السياسيّ والعسكريّ المباشر حيثما تطلب الأمر من وجهة نظر مصالح الدولة. هذه الاندفاعة لا تشبه أبداً الطابع المحافظ للسياسة التقليدية للسعودية، بل تشبه السياسات التدخلية لأنظمةٍ عربيةٍ من نوع نظام صدام العراقيّ أو حافظ أسد السوريّ أو مصر عبد الناصر.
هل يسمح "النموذج السعوديّ" بسياسةٍ تدخليةٍ نشطةٍ من هذا النوع؟ يتطلب هذا السؤال تناولاً مستقلاً لا يتسع له المجال هنا.