قطعةٌ ناقصةٌ من سماء دمشق

 

في هذا الكتاب يجمع الصحافيّ والكاتب الفلسطينيّ السوريّ رائد وحش عدداً من نصوصه التي تناولت ملامح من الحياة في مخيّم خان الشيح قرب دمشق، وفي العاصمة نفسها، خلال سنوات الثورة. صدر الكتاب عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع بدمشق عام 2015.

تحوّلت الأرصفة إلى بسطاتٍ متتالية. من فقدوا عملهم في بلدات ريف دمشق وضواحيها صاروا باعة بسطات، أما تلك التي في المدينة فبسطاتٌ ذات مهماتٍ أمنية. فيما تستعيد البِقالة ومحلاتها التي تحوي كلّ شيءٍ ألقها، بعد أن كانت ثقافة التخصّص قد طغت لسنوات؛ محلاتٌ للمواد الغذائية، وأخرى لمواد التنظيف، وثالثة للأقمشة... وفي سبع ليالٍ من أسبوعٍ واحدٍ يتكرّر كابوس الكاتب بأشكالٍ مختلفةٍ حول الحبكة نفسها؛ فقدان بطاقته الشخصية بشكلٍ مفاجئٍ في دمشق ومحاولته العودة إلى المنزل عبر طريقٍ مدروزٍ بالحواجز. في البداية يجد نفسه في ساحةٍ يضرب يده على جيبه فلا يعثر على البطاقة، فينكبّ على الرصيف يفتّش بلاطه عساها سقطت هنا أو هناك. يتحوّل انكبابه إلى زحف، وزحفه إلى استلقاءٍ يائس. ينقطع المشهد هنا ويجد الحالم نفسه في الكاراجات. خلقٌ كثيرون هنا أيضاً، قاماتهم عاليةُ ووجوههم غاضبةٌ عنيفةٌ كما يليق بشعبٍ ثائر... لكنهم جميعاً يمدّون بطاقاتهم كي يعبروا البرزخ العسكريّ العملاق! يتواصل الناس مع بعضهم عبر الهاتف بالشيفرات؛ ترسل امرأةٌ إلى زوجها «بدأ العرس» فيفهم أن القصف على منطقتهم قد اشتعل، أقارب يطمئنون على آخرين فيجيبهم هؤلاء «طارت ثلاثة شراشف» في كنايةٍ عن أكفان الشهداء. فقط عندما يختنق الناس كانوا يصيحون بوضوحٍ على الهاتف: «ذبحونا... الجيش والمخابرات ذبحونا». حين اشتدّت الاشتباكات في حيّ الحجر الأسود، الذي يحوي لاجئين فلسطينيين ونازحين من الجولان أيضاً، غادره سكانه ولم يبقَ سوى أبو طارق الذي كان يرفض لغة التشفير منذ البداية فتجنّب الناس مكالمته بسبب ذلك، ولكنهم الآن مضطرّون إلى الاتصال به للاطمئنان على منازلهم ومحالهم. أتت فرصة الانتقام لأبي طارق على طبقٍ من ذهب فصارت أجوبته: «لا يوجد شيء... أنا الآن أسهر مع الثوّار... تفضل»؛ «الأمور صعبة اليوم قليلاً، كلفني الرجال بحراسة أسرى من أمن النظام العاهر»؛ «اسمع صليات الرصاص، إننا نحتفل بإعدام جاسوس». ويتناقل سكان مخيّم خان الشيح الروايات عن جمعة، أشهر عساكر الحاجز القريب. يراه البعض مغلوباً على أمره في الجيش بينما يعدّه آخرون حقيراً، ومثالاً نموذجياً عن أدوات القمع. جمعة يحبّ بشار، وقد علّق على بدلته العسكرية بطاقةً كتب عليها «جمعة لن يتسرح من الخدمة ما دام القائد في خطر». أوقف يوماً سيارةً مدنيةً مرّت عبر الخط العسكريّ، وحين رأى المهمة الأمنية من القصر الجمهوريّ سأل صاحبها: «هل ترى الرئيس؟»، فأجاب: «طبعاً، كل أسبوع أجتمع معه»، فقال العسكريّ بغضب: «إذاً أخبره أن جمعة لم يستحمّ منذ شهرين». ويروي آخرون أن جمعة أعجب مرّةً بأغاني العرس التي كانت تلعلع من مسجّلة السرفيس الذي كانوا يستقلونه فأنزل الركّاب وعقد حلقة دبكة، وأمسك على الأول. ويقول سواهم إنه ما إن رأى فتاةً جميلةً بين الركاب حتى أغلق باب سرفيسهم وسمح له بالمرور دون تدقيقٍ كرمى لعيونها. لم يرَ كاتبنا جمعة ولا مرّةً واحدة. قال الناس إنه ربما يمرّ في أوقات انتهاء مناوبته. ولكن الأوصاف التي جمعها كانت لشابٍّ عشرينيٍّ أسمر بعينين خضراوين، مربوع القامة، بوزنٍ زائد، راحة يده كالمطرقة، تسبقه رائحة الخمر عدّة أمتار، يرتدي حذاءً رياضياً تحت البدلة العسكرية، ويضع الشماغ الأحمر على رأسه. وحين عرف أحد أصدقاء الصحفيّ اهتمامه بشخصية جمعة، وكان هذا الصديق على معرفةٍ بالضابط المسؤول عن الحاجز؛ تطوّع لسؤال الضابط الذي أجاب: «لم يكن، خلال الشهور الستّ الماضية التي داومت فيها هنا، أيّ عسكري بهذا الاسم أو بتلك المواصفات... مع أني أسمع عنه كثيراً، ولا أفهم لماذا أُسأل عنه دائماً!».