بين القضاء والمجال الخاصّ والرصد
بعد أن رُفض طلبه للزواج لجأ أحد عناصر حسبة مدينة دير الزور إلى استقدام دوريةٍ معزَّزةٍ بمضادّ طيرانٍ لاعتقال العائلة التي رفضته، بدعوى احتواء منزلها تماثيل وأصناماً وصوراً خليعة. وبعد احتجاز شباب العائلة لأكثر من أسبوعين، وضربهم المضاعف بسبب أسمائهم الغريبة (أسماء كردية)، أخلى القاضي سبيلهم لعدم وجود قضيةٍ، ولأن الادعاء اعتمد على التجسّس، كما أعلمهم بإمكانية الشكوى على صاحب الدعوى.
تعدّ هذه الحادثة عينةً من سلسلةٍ طويلةٍ من غرائب القضايا التي تتفجّر يومياً في ظلّ تنظيم الدولة، وتعبر عن مدى استعداد عناصره للتجبّر حين يتاح لهم أن يكونوا في مراكز السلطة التي لا تعارَض. على أن محاولات حماية الفرد من بطش الأجهزة التي تغوّلت سريعاً ليست استجابةً لوازعٍ دينيٍّ لدى شرعيّي التنظيم وقضاته، بحسب أحد معارضيه، بل هي استجابةٌ لكثرة الشكاوى ضد تلك الأجهزة من قبل بعض العناصر والكثير من الأهالي. ولكن أحد متابعي التنظيم في المدينة يقول إن قادة الأخير دفعوا باتجاه هذا الشكل من الأجهزة منذ البداية، ومنحوها صلاحياتٍ في مراقبة النوايا بالإضافة إلى الحفاظ على الأمن ومراقبة تطبيق التعليمات. ولذلك لجأ هؤلاء القادة إلى رجال الأمن المنشقين عن النظام، كأبو وسام، الذي كان له دورٌ بارزٌ في بناء الأجهزة الأمنية للتنظيم في المدينة ثم في ريفها الغربيّ والآن في تدمر.
وتحت وطأة القوانين الإدارية الجديدة والتنقلات والعقوبات والخوف من الأجهزة المحدثة (كالشرطة العسكرية) غيّرت الأجهزة الأمنية تكتيكها لكنها لم تغيّر استراتيجيتها. فمنذ قرابة الشهرين لم تعد تلجأ، إلا قليلاً، إلى مداهمة وتفتيش البيوت والأشخاص على الشبهة ودون إذن القضاء، لكنها صارت تعتمد على ما يسميه قادتها "الرصّاد".
يصل قادةٌ أمنيون بعدد الرصّاد إلى تسعمئةٍ في مدينة دير الزور وحدها، لكن ناشطين سابقين يقدّرون عددهم بما بين المئة والمئتين. لا تجمع الرصّاد شبكةٌ أو سجلٌّ رسميٌّ، ويرتبطون كجماعاتٍ بأشخاصٍ متنفذين داخل الأجهزة وخارجها، مع الحرص على تبادل المعلومات بين أولئك المتنفذين. وبحسب بعض الرصّاد فإن الراصد الصغير والمبتدئ يتقاضى عشرة آلاف ليرةٍ في الشهر كحدٍّ أدنى مقابل معلوماتٍ عن حيازة الأسلحة أو الارتباط بجهاتٍ خارجيةٍ أو التحريض على التنظيم أو بيع الممنوعات وغيرها. وهناك رصّادٌ متطوّعون، وهم المؤهلون أكثر من غيرهم للصعود الوظيفيّ، إذ يرى فيهم القادة "أصحاب عقيدةٍ قوية". ويتبع بعضهم لأمير مكتب العلاقات العامة أو لأحد القادة مباشرةً، ويتبع البعض الآخر لرصّادٍ محترفين يقدّمون الأجور، بالإضافة إلى الولائم والدخان أحياناً. ويحمل الرصّاد الكبار ورقةً رسميةً خاصّةً لتسهيل مهامهم. ويعمل بعضهم بشراء الأسلحة والذخيرة، مع التعهد بالسرّية التامة، ليشتريها التنظيم في الكثير من الحالات، وفق لائحة أسعارٍ محدّدةٍ سلفاً.
وبسبب حذرهم الآن، يحاول الأمنيون استخدام الرصّاد في مداهمة البيوت دون إذنٍ قضائيٍّ مشروطٍ بتوقيع شاهدين على المعلومة الموجبة للمداهمة. وتندرج مشاركة الراصد ضمن خطّةٍ يضعها الأمنيون؛ فقد يدفعونه إلى التسلل إلى منزل صاحب السلاح ليلاً لمعرفة مكانه أو لسرقته، وتتكفل سيارةٌ أمنيةٌ بالتدخل إذا افتضح أمره، والإيهام بأخذه إلى الشرطة على أنه لصّ، بينما يطلَق سراحه بمجرّد الابتعاد عن المكان.
أما لملاحقة التحريض على التنظيم فيُسمح للراصد بحرّية الكلام أمام المشتبه بهم (في بعض الأحيان يراقب العناصر أنفسهم) دون التعرّض (لله والرسول والخليفة) كما يوصيه قادته. ويستعمل البعض أجهزة تسجيلٍ صغيرةً يحملها الرصّاد الكبار بشكل دائمٍ لتسجيل أغلب اللقاءات والاجتماعات.
ورغم أن القادة يطلبون من أصحاب المخالفات "التعاون" حين إطلاق سراحهم، كما طلب ذلك من التجار؛ لكن التنظيم لا يعوّل على ذلك بقدر ما يعوّل على رصّاده. أما الأهالي فيبدون ارتياحهم النسبيّ لعناصر جيش التنظيم، لكنهم على حذرٍ دائمٍ من عناصر الأجهزة، خاصّةً الأمنية، بالإضافة إلى تجار السلاح. وأكثر من ذلك يبدون حذرهم من أقارب أولئك، كالإخوة والأنسباء. لأن العمل الاستخباريّ للتنظيم يتمّ باستخدام العلاقات الاجتماعية، ويعتمد البحث والتقصّي على كلام الأصدقاء والجيران والأقارب. الأمر الذي ينمّيه التنظيم على ما يبدو، إذ كلما كان الشخص الذي يوقع به الراصد قريباً منه زادت ثقة التنظيم به. ورغم ذلك ما زال الكثير من أهالي المدينة يرى في أهالي الريف القادمين للعمل عواينية، ويرى أهالي الريف أن أهالي المدينة النازحين عواينية.