عدسة خليل
في مطعمٍ حلبيٍّ.. في عينتاب
هذه الثورة المشاكسة وهذا الشعب العجيب
إنه أكثر من مطعمٍ للفول، كما تعرّف اللوحة (المطعم الحلبي الأصيل.. ملتقى السوريين والعرب) في مدينة غازي عينتاب التركية، الذي افتتحه "أبو فراس"، وهو كهلٌ لطيفٌ وصاحب صنعةٍ، تمكّن خلال مدّةٍ قصيرةٍ أن يجعل من مطعمه هذا الأول على قائمة مطاعم الفول الحلبية في عنتاب، حيث أصبح للحلبيين، في انتقال عالمهم إلى هذه المدينة التي تشبه مدينتهم كثيراً، قوائم غير مكتملة لأشياء حياتهم التي قُلبت رأساً على عقب بدخول الثورة المسلّحة إلى مدينتهم قبل أكثر من عام، حياة تحولت إلى ماضٍ هانئٍ ومليء، هو موضوع مباهاةٍ وشوقٍ وحنين. وفي ارتياد هذا المطعم تلبيةٌ لهذا الشوق واستجابةٌ لحاجاتٍ جادةٍ في إيجاد البديل هنا.
أشياءٌ كثيرةٌ تغيّرت. يحسّ الحلبيُّ بهذا ولا يحسن التعبير عنه دوماً، أولها فقدان السيطرة على العالم الخاصّ، أو فقدان القدرة على الادّعاء به، رغم الإصرار المتواصل على نقل هذا العالم، وشيئاً فشيئاً، إلى عينتاب.
لم يحُل برد الخريف دون إخراج الطاولات إلى الرصيف.. وقف أبو أحمد، الرجل الخمسيني الذي يرتدي جلابيّةً شتويةً سوداء، يداعب المفتاح الأوتوماتيكي لسيارته، ينتظر تجهيز ما طلبه من صاحب المطعم، ليعود إلى البيت. كان أبو أحمد تاجر خيطٍ صغيرٍ أرغمته الظروف على النزوح ليفقد كل شيء، كما يقول لأحد المعارف الذين رآهم صدفةً أمام هذا الملتقى الذي يجمع سوريين كثيرين، بأنماطٍ واهتماماتٍ مختلفة، كما يبدو من نظرةٍ سريعة. فعلى طاولةٍ قريبةٍ اجتمع عددٌ من الناشطين المقيمين والزوّار يستمعون إلى كلام شابٍّ من الرقة عن الفساد في توزيع الإغاثة، وعن التضييق الذي يُمارس على الناشطين المدنيين هناك، وعن الفوضى وخروج الثورة عن مسارها. يرضي هذا الكلام تاجر الخيط كثيراً، وهو ينتظر اكتمال تجهيز طلبه من المطعم، ويحاول أن يركّز ليعرف شيئاً من الأحاديث المتنوعة التي تدور على الطاولات، وليعرف أكثر عن سوريين آخرين لم يعرفهم من قبل، ولا يستطيع تقدير دورهم ومكانهم في سورية الجديدة. تغيرت "علوم الحياة" في عالم الحلبيّ الخاصّ، وتغيّرت كذلك أدواته في الفرز والتصنيف وتقييم الأشخاص المهمّين واصطفاء من ينفع من بينهم. فالشخص الناجح، وكما تعلّم تاجر الخيط منذ نعومة أظفاره، هو من يعرف المفتاح، والمفتاح اصطلاحاً هو الأداة التي تقود إلى الرجل العمليّ المهم النافع.
كان التقييم سهلاً في الزمن الجميل، والآن هو أمرٌ بالغ الصعوبة والتعقيد، وخاصةً مع زعم الجميع أنهم من رجال الطبقة الأولى والمؤثّرة، مما يربك التاجر، الذي يقول في نفسه بطريقةٍ تشبه الكشوفات العظيمة، كيف لمن يدّعي أنه فعّالٌ في هذه المشاكل كلها أن يعمل في الخفاء؟! إنه رجلٌ تافه، يحسم التاجر أمره ويحاول أن يفهم شيئاً من كلام رجلٍ من ريف إدلب على طاولة أخرى، يعرّف نفسه أنه قائد كتيبة، ويتحدّث بصوتٍ عالٍ عبر الجوّال، مطلقاً اللعنات على هيئة الأركان الفاشلة، ومحدّداً شخصاً محليّاً بعينه، على أنه فاسدٌ ولصٌّ وابن حرام. وعلى طاولةٍ أخرى يشاهد تاجر الخيط ثلاثة رجالٍ يبدون كموظفين حكوميين سابقين، يتحدّث أحدهم بمتعةٍ ويصغي الآخران، عن كرم جمعيات الإغاثة التركية مع السوريين، وكيف يحصل كلّ من يسجّل اسمه في مكتبٍ بعينه ـ على سبيل المثال ـ على طنٍّ من الفحم للتدفئة في هذا الشتاء. ويعلّق الموظف الممتنّ لكرم الجمعيات الخيرية على أصوات الألعاب النارية، التي لفتت انتباه الجميع، بأن هذا اليوم يصادف العيد الوطني للجمهورية التركية. ومن منزلٍ شعبيٍّ يقابل المطعم، ويسكنه نازحون سوريّون، وقف ثلاثة أطفالٍ يصرخون بفرحٍ مع كل جولةٍ جديدةٍ للألعاب الناريّة الملوّنة: الله محيّي الجيش الحرّ.
ما زال تاجر الخيط ينتظر طلبه باعتياد من انتظر أمام مطاعم الفول آلاف المرات، يتسلّى بسماع أخبارٍ من عالم الثورة، ويقترب بين حينٍ وآخر من صاحب المطعم، ليطمئن على التقيّد الحرفي بملاحظاته الخاصة عن وجبة الفول وملحقاته، ويجيبه صاحب المطعم بتفهمٍ عميق، كما يليق برجلين من عالمٍ واحد.