في مدينة كيليس..
حين يجتمع العمال السوريون على دوار مندرس وينصرفون

دوار مندرس بعدسة الكاتب

«ما دخل جيبي ولا ورقة من تلات أيام» بدأ أبو علي حديثه، وهو يلف سيجارة من كيس تبغ مهترئ «كابتن بلاك»، وضعها بين إصبعيه، ثم مررها على فمه، اقتطع منها الجزء المبتل، ليبصق على الأرض. «الشغل بالشتا قليل، مافي غير حمولات الفحم، كل يومين تلاته، وعلى طول بياخدوا الشباب». أصلح أبو علي «منديله» كي يغطي الشيب الذي ملأ رأسه.

على طرف الرصيف المحيط بدوار مندرس، في ولاية كيليس التركية، يتجمع العشرات من الشباب السوري، منذ ساعات الفجر، يرتدون كل ثيابهم لشدة البرد، يضعون أيديهم في جيوبهم الخلفية، وينتظرون السيارات العابرة لتختار منهم «عامل يومية»، بعد أن أرهقهم البحث عن فرصة عمل في الولاية الحدودية التي تضاعف عدد اللاجئين السوريين فيها، خلال السنتين الأخيرتين، ليشكلوا نسبة 95,15 بالمئة إلى المواطنين الأصليين، بعدد تجاوز 125 ألف لاجئاً، مقابل 130.825 من الأتراك المسجلين في الولاية، بحسب المديرية العامة لإدارة الهجرة في تركيا. أكثر من نصفهم يعاني من عدم توفر فرص العمل.

لا توجد منشآت صناعية كبرى في كيليس، ويعتمد سكانها على وظائف الدولة، بالإضافة إلى المحاصيل الزراعية من أراضيهم. «في مواسم الزراعة كنا دائماً نلاقي شغل، نجي عالدوار وتجي سيارات تاخدنا نشتغل بالأرض، نحوش فليفلة، زيتون، خضرة، بس بالشتا مافي مواسم، كل يوم مننزل لهون ونادراً ما نتوفق بشغل»، يقول أحمد العبد الذي كان يعمل موظفاً في مؤسسة المياه في مدينة حلب، بقي أحمد في المدينة حتى تهجير أهلها في كانون الأول 2016، ليخرج بعائلته المكونة من ثلاثة أطفال وزوجته ووالدته إلى إدلب، ثم إلى تركيا عن طريق التهريب، ليستقر به المقام في ولاية كيليس. «كل المعامل في المنطقة الصناعية مو لازمهم عمال، دورت بكل مكان: ورشات البناء، الدكاكين، كل محل، ما توفقت. صرلي سنة بوقف كل يوم هون، والله بيبعت رزق الولاد». يتقاضى أحمد «35-50» ليرة تركية من عمله كمياوم، وهي لا تكفي للحد الأدنى من الحياة، وإيجارات البيوت المرتفعة والفواتير التي لا تنتهي.

سعيد الطرشة من مدينة حلب قدم إلى كيليس منذ أربع سنوات قال «إن حال المدينة قد تغير، عندما أتينا إلى هنا كان الوضع أفضل، وكانت اليومية لا تتجاوز 25 ليرة، ولكنها كانت تكفي لحياة وسطية، كان سعر الدولار 1,93، واليوم تجاوز سعره 3,8، وكان إيجار البيت لا يتجاوز 250 ليرة تركية، ليصل اليوم إلى 500 ليرة على الأقل، بعد أن أصبح الحصول على شقة فارغة مهمة شبه مستحيلة، فالأسعار ارتفعت، والرواتب على حالها».

في الطريق إلى الدوار يسترعي انتباهك إعلانات ألصقت على واجهات المحلات التجارية، يلزمنا «عامل سوري لا يتجاوز عمره 15عاماً»، «مطلوب للعمل فتاة من 13- 15 سنة تجيد اللغة التركية».

يرغب معظم أرباب العمل في المدينة بتشغيل الشباب والمراهقين بأعمار صغيرة، ويعزو صاحب أحد المحلات التجارية في المدينة ذلك «إلى قدرتهم على التأقلم، واكتساب اللغة بسرعة، وتحملهم ساعات العمل الطويلة»، إذ تتجاوز ساعات العمل في المدينة  في مختلف المجالات 10 ساعات، وتصل في بعض الأحيان إلى 12 ساعة، براتب لا يتجاوز 1100 ليرة تركية، ووجبة طعام واحدة، دون الحصول على ضمان صحي أو اجتماعي، فاليد العاملة السورية غير قانونية، ولا تتطلب تأميناً، ولا تخضع للحد الأدنى من الأجور المطبق من قبل الحكومة التركية.

مرت ساعات الصباح، ليُخرج أبو علي الرجل الأربعيني، وبعض من التف حوله في حديقة دوار مندرس، «أكياس الزوادة»، رائحة البصل و«مية الفرنجي»، دبس البندورة كما يطلق عليها في مدينة حلب، ملأت المكان. أكل رغيفه على عجل، ورفض أن يشرب الشاي الذي يحمله شاب صغير يعمل في «براكة مشروبات» على الدوار. نظر إلي، ثم قال «بيشربونا كاسة شاي بنص ليرة، ومندفع بالتواليت ليرة ونص لنفضيها»، ابتسم الجميع لطرفة أبو علي، الذي مسح فمه ويديه بمنديله، ثم استقام واضعاً يده في جيبه الخلفي كشاب في العشرين من العمر، علّه يحظى بعمل يسد رمق عياله.