لا يغيب الحديث عن "الخلايا" الخارجية لتنظيم الدولة عن أيٍّ من السوريين في أورفا، المدينة التركية التي استقبلت العدد الأكبر من أهالي المنطقة الشرقية، والتي يتجاوز عدد اللاجئين فيها النصف مليون، يشكّل أهالي دير الزور والرقة ثلثيهم تقريباً. وتختلف نظرة السوريون وغيرهم إلى هذه "الخلايا" من شخصٍ إلى آخر؛ فيرى البعض أنهم مجرّد موالين للتنظيم عاطفياً، بالإضافة إلى قلةٍ من المبايعين جاؤوا لأغراض مختلفة، ويصل بهم البعض الآخر إلى جهازٍ شديد التنظيم يضاهي الـCIA!!!
اصطدم ناشطو دير الزور مع خلايا التنظيم الخارجية منذ سيطرته على المدينة. ففي تلك الفترة توجّه أعضاءٌ من الكادر الطبيّ والإعلاميين إلى تركيا لتلقي تدريباتٍ على الإسعافات الأولية، بعد موافقةٍ خطيةٍ من أمير ديوان الصحة في المدينة. لكن أمنيّي التنظيم اعتقلوهم بعد عودتهم، وتمّت مواجهتهم في التحقيق بتفاصيل كثيرةٍ من رحلتهم. وقد وجّه الناشطون أصابع الاتهام سرّاً، بعد الإفراج عنهم، إلى أحد زملائهم في الدورة التدريبية له الكثير من أولاد العم المبايعين. واعتقل بعدها الكثير من الأشخاص الذين زاروا تركيا بسبب لقاءاتهم هناك بشخصياتٍ تجاهر بمحاربة التنظيم، ما دفع غالبية أهالي المنطقة الشرقية عموماً، ودير الزور خصوصاً، إلى الهمس عند الحديث عن "داعش".
سياسيٌّ عروبيٌّ من دير الزور يقيم في أورفا، ينخرط في فعالياتٍ سياسيةٍ ومدنيةٍ متعدّدة، تلقى تحذيراتٍ كثيرةً من معارفه وأقاربه لضبط النفس والتوقف عن حملاته العلنية على التنظيم. وجاء بعض هذه التحذيرات من أتراكٍ من أصولٍ عربية. يعتقد هذا السياسيّ أن الكثير من الاعتقالات والإعدامات التي ترتكبها داعش في دير الزور تتمّ بسبب نشاط أقارب الضحايا في تركيا، لخوف الأمراء من الخلايا النائمة المناهضة. ويعدّد أسماء عناصر من التنظيم جاؤوا كمنشقين مزعومين عنه لكنهم عادوا إليه بعد جمع معلوماتٍ كثيرةٍ من الناشطين. يميّز الرجل بين النقد البسيط لداعش والعمل المنظم الذي تخاف منه، وخاصّةً في كشف الأسماء الحقيقية للأمراء و"علاقتهم بالمخابرات السورية والعالمية"، تلك العلاقة التي لا يشك محدّثنا لحظةً في وجودها.
ازدادت الأمور تعقيداً بعد ذبح الإعلاميَّين المناهضين لداعش في أورفا في تشرين الأول الماضي، وراحت تطفو على السطح الكثير من الأقاويل عن خلايا التنظيم. يقول ناشطٌ إغاثيٌّ من الرقة إن لداعش خلايا منظمة في أورفا ولكنها "ما تعمل إلا يجيها الأمر"، و"في ناس مجنّدتهم" لمتابعة أمور الناشطين وتتبع أخبارهم وتحديد الأكثر خطورة. ويقول إن الشكوك في هذا المجال تدور حول شخصياتٍ معروفة، قاصداً منشقين عن التنظيم. وقد وصلت عدوى الحذر من "خلايا أورفا" إلى الكثير من الصحف الغربية التي تمنع صحفييها من التوجّه إلى المدينة بعد الخامسة مساءً، وتختار لهم عينتاب مكاناً للإقامة. على أن الأخيرة لا تختلف كثيراً عن أورفا، كما يرى احد الصحفيين الغربيين الذين يتردّدون إلى المدينة كثيراً. كما أن الاثنتين أقلّ خطراً من بيروت التي تثق بحالتها الأمنية جميع الصحف، بحسب ما نقل عنه.
اتخذ التنظيم العديد من الإجراءات للحدّ من الانشقاقات، كمنع العناصر من التنقل بدون إذنٍ رسميّ. ورغم ذلك ما زال يتدفق الكثير منهم إلى تركيا سرّاً، معلنين انشقاقهم لأقربائهم ومعارفهم فقط، ويختارون أورفا للإقامة، وسط ترحيب وتشجيع البعض، ومطالبات آخرين بالمحاسبة، وخوف وارتياب الغالبية. ولا يميّز السوريون في هذا المجال بين المناصرين والمبايعين. (أ، ب) إعلاميٌّ مستقلٌّ من دير الزور، تابع عمله بعد سيطرة التنظيم على المدينة بموافقة الأمراء هناك، يرى أن للمعلومات التي يحصل عليها أمنيو داعش مصادر ثلاثة؛ أقاربهم في تركيا، والأشخاص الذين يترددون إليها بغرض التجارة، وبعض المجنّدين المتفرّغين لهذه الأعمال بالإضافة إلى مهامّ أخرى كالعناية بجرحى التنظيم الذين يأتون إلى تركيا للعلاج. ويفيد أحد الذين يعملون في تحويل الأموال عن مبالغ يتلقاها أشخاصٌ في أورفا محسوبون على التنظيم، لكنه لا يعرف بالطبع إن كان الهدف منها القيام بنشاطاتٍ معينةٍ أم مجرّد التضامن الاجتماعيّ من أقارب، على أنه يؤكد أن قادةً سابقين في جبهة النصرة يسهّلون الكثير من التحويلات المالية لصالح التنظيم.
الجدير بالذكر أن الكثير من اللاجئين، وخاصّة الناشطين، ينظرون بعين الريبة إلى الإعلاميين الذين عملوا في ظلّ التنظيم وبموافقته، ويعتقدون أنهم عيون داعش في تركيا. (أ، ب) نفسه يتهمه الكثير ممن يعرفه بالعمالة للتنظيم بسبب العلاقات التي كانت تربطه بعناصره وأمرائه. بينما يبرّر هو بأن الإعلاميين في حاجةٍ دوماً إلى العلاقات لتسهيل عملهم والحصول على المعلومات.
المقهى هو المكان المفضّل لأبناء دير الزور في أورفا لقضاء الوقت. ويجري الحديث فيه عن "مخابرات الدواعش" وخلاياها همساً، فهم "موجودون في كلّ مقهى"، كما يجزم غالبية روّاد أحد المقاهي. لكنهم يتلكؤون عند طلب تحديد أحد أعضاء هذه "الخلايا"، ويشير بعضهم إلى شخصياتٍ ترداد المقهى لأكثر من غرضٍ، يهتمّ بهم الساعون إلى الحصول على مستنداتٍ وجوازات سفرٍ مزوّرة، ويعمل بعضهم بتجارة الحشيش كما يقول بعض الزبائن الذين بدوا غير متأكدين من الجهة التي يعمل معها هؤلاء المشبوهون، فالبعض يجعلها مخابرات النظام والبعض الآخر أمن داعش. أما من يجاهرون بعداء التنظيم في الأماكن الخاصّة والعامة فإن "ورقتهم محروقة" بالنسبة إلى الأهالي، بمعنى أنهم على لائحة التنظيم ويعرفون أن حياتهم مهددة، ولذلك أصبحوا مستهترين، وبعضهم يقاتل ضد التنظيم حتى هذا الوقت. ورغم أن روّاد المقهى يفشلون في تحديد شخصٍ يعمل في خليةٍ تابعةٍ للتنظيم إلا أن بعضهم يصرّ على أن مخابراته أقوى من المخابرات الأمريكية، ويحذر من فتح موضوعها أمام زبائن آخرين لم يمرّ على هروبهم من أراضي التنظيم أكثر من شهر.
أحد الصحفيين من دير الزور، وقد دخل إلى العديد من المدن الخاضعة للتنظيم وسرّب الكثير من المعلومات التي استعملت في تقارير عالمية، يرى أن ما يسمّى خلايا داعش ليس سوى دعايةٍ مجانيةٍ جاءت نتيجة الخوف من التنظيم، وأن المعلومات التي يحصل عليها ليست عن طريق مخابراتٍ تقوم على خلايا منظمة. وبحسب رأي هذا الصحفيّ فإن "ما يشاع عن الخلايا مجرد تكهنات... داعش لا ترسل عناصر إلى تركيا بمهماتٍ استخباراتية... الدواعش بتركيا كثر، يأتون تهريباً لقضاء الإجازات أو للعلاج... فإن قدّموا معلوماتٍ فهذا من باب إظهار الولاء لا أكثر". ويؤيد ناشطون ما ذهب إليه الصحفيّ، فيرى أحدهم أن ما يسمّى خلايا داعش هو "عفارم" من بعض عناصره أو المتحمّسين له بقصد خدمته بدافع الإخلاص أو الصعود داخل أجهزته، ويتساءل آخر عن السبب الذي يمنع التنظيم من الاقتراب من قادةٍ وناشطين سوريين بارزين، في تركيا وخارجها، رغم أنهم فاعلون في قوىً وتشكيلاتٍ تعدّ شوكةً في حلقه؟
يفتح السؤال الأخير الباب أمام الكثير من الاحتمالات، وقد تكون له الكثير من الأجوبة. لكن الأرجح أن السبب الذي يفضّل من أجله عناصر التنظيم المنشقون مدينة أورفا هو وجود حاضنتهم الاجتماعية القديمة من أقارب وأصدقاء، واختلاط احتضان هؤلاء للمنشقين والدفاع عنهم باختزال التنظيم من قبل بعض مناوئيه بقوىً عشائريةٍ معينة، والتركيز على مواقف شخصيةٍ سابقةٍ وإعطائها أبعاداً مختلفة. ويسلط ذلك الضوء على العامل الاجتماعيّ الذي نمت في ظله فكرة "خلايا داعش"، فالكثير من أهالي المنطقة الشرقية الذين هربوا من عالمهم حملوا معهم قضاياه العالقة، التي تشكل العشائرية وتصفية حساباتها -باستخدام التنظيم وغيره- أحد أظهرها. على أن التنظيم نفسه، الذي يعيش في الأزمات، لا يتوانى عن محاولة تصديرها حين تتاح له الفرصة..