بتنا لا نعرف هل نفرح لفكّ الحصار، جزئياً وبصورةٍ مؤقتةٍ ومشروطة، عن مضايا، أم نبكي على موت عددٍ متزايدٍ من سكانها أثناء الحصار الذي امتدّ شهوراً. ما نعرفه جيداً هو ارتفاع منسوب حقدنا على حزب الله الإيرانيّ في لبنان الذي كانت له اليد الطولى في هذا الحصار الأسديّ.
لعلنا رأينا في هذا الانكشاف الأخلاقيّ الكبير لهذه الميليشيا الطائفية المستتبعة لإيران ثمناً معقولاً اقتصّ به القدر من أحد المجرمين الوالغين في دمنا السوريّ المباح.
لا علاقة للأخلاق بالسياسة ومصالحها، والقوّة وموازينها، ولعبة الأمم وقذاراتها؛ هذا درسٌ نعرفه جيداً منذ زمانٍ طويل. ولكن، بالمقابل، لا سياسة ولا صراعات قوّة ولا صراعات دولٍ إلا وتسعى إلى التستر بغطاءٍ أيديولوجيٍّ ما له منظومته الأخلاقية الخاصّة، من مستلزمات الحشد والتعبئة وغسيل الأدمغة.
حاول حزب الله الإيرانيّ في لبنان أن يسوّغ تدخله في الصراع السوريّ لمصلحة النظام الكيماويّ، بذرائع وشعاراتٍ طائفيةٍ أساساً، كالدفاع عن المقامات الشيعية في سوريا أو عن سكانٍ شيعةٍ في بعض القرى الحدودية، أو كهجومٍ استباقيٍّ لمنع وصول الإرهاب التكفيريّ إلى عقر دار "المقاومة". أي أنه لم يبحث أصلاً عن تسويغٍ أيديولوجيٍّ لحربه، ناهيكم عن أيّ غلافٍ أخلاقيّ، باستثناء الترّهات التي لم يعد أحدٌ يأخذها على محمل الجدّ كالدفاع عن النظام "الممانع" "في وجه الهجمة الإمبريالية الصهيونية" التي يتعرّض لها.
أي أن الحزب الإيرانيّ في لبنان دخل الصراع في سوريا بهويةٍ طائفيةٍ معلنةٍ حرص على التوكيد عليها، مستبعداً، بصورةٍ متعمدةٍ، أيّ تبريرٍ أيديولوجيٍّ أو أخلاقيّ يمكن تسويقهما خارج القاعدة الاجتماعية المذهبية له. هذا أمرٌ ذو دلالةٍ مهمة، يعني أن خطاب الحزب استهدف شدّ العصب الطائفيّ الشيعيّ العابر للحدود من جنوب لبنان إلى الفوعة إلى بغداد وصولاً إلى طهران، من غير أن نغفل مروره باليمن وعددٍ من بلدان الخليج التي فيها نسبةٌ من السكان الشيعة.
أما عدّة النصب المسمّاة "مقاومة" و"ممانعة" و"عداء لأميركا وإسرائيل" فقد فقدت قيمتها الاستعمالية من خلال التفاهمات "الشيعية" – الأميركية في العراق وإيران. ولا يمكن لابتكاراتٍ عجائبيةٍ من نوع أن "طريق القدس تمرّ من الزبداني أو حلب أو دير الزور" إلا أن تثير السخرية المريرة المغمّسة بدماء ضحايا هذا الحزب المرتزق في سوريا ولبنان ومخيم اليرموك.
فما الجديد إذن في الانكشاف الأخلاقيّ لهذا الحزب الطائفيّ، ما دام هو نفسه حريصاً كلّ هذا الحرص على إشهار طائفيته؟
الجديد في حدث مضايا هو حول لا أخلاقية الوسائل. وعلى رغم أن الحروب ليست بالسياق المناسب للحديث عن أيّ أخلاقيات، يبقى أن البشرية طوّرت، عبر تاريخها الطويل، مبادئ أخلاقيةً للحروب نفسها، كاحترام العدوّ وحسن معاملة الأسرى وعدم استهداف المدنيين وغيرها من المبادئ التي تمّ تكريس بعضها في قوانين دوليةٍ ملزمةٍ للجيوش المتحاربة (كمعاهدة جنيف بشأن أسرى الحرب 1949). بل نحن نعرف أنه حتى عصابات الجريمة المنظمة (المافيا) لديها نوعٌ من "المدوّنة الأخلاقية" غير المكتوبة، تلتزم بها تلك العصابات أثناء نشوب صراعاتٍ دمويةٍ بينها. نتحدّث غالباً عن "شريعة الغاب" لنقصد بها أن القويّ يملك حرية التصرف بمن هم أضعف منه. لكنها "شريعةٌ" مع ذلك، أي أنه ثمة التزامات على القويّ أن يتقيد بها. ففي الغابة لا يهاجم الوحش القويّ الحيوانات الضعيفة إلا إذا جاع، ويكتفي حين يشبع.
شعار "الجوع أو الركوع" الذي ابتكره مسلحو النظام الكيماويّ المفتقد لأخلاقيات الغابات العذراء، نفذه مقاتلو ميليشيات حزب الله الإيرانيّ في لبنان بأمانةٍ مشهودة، نالوا عليها كمّاً من احتقار اللبنانيين، قبل السوريين، أدخل إعلام الحزب في حالةٍ دفاعيةٍ بائسةٍ استحقت شماتة الشامتين. أبواق الحزب الإعلامية احتارت كيف تبرّئ ساحته من اتهامٍ مثبتٍ بالصوت والصورة بقتل المدنيين جوعاً. فبدأت بالإنكار التام، وادّعاء أن الصور الفظيعة للهياكل العظمية هي من مخيّم اليرموك وليس من مضايا (وكأن قتل فلسطينيي المخيم الشهيد حلال!) لتقول بعد ذلك إن "العصابات المسلحة" هي المسؤولة عن تجويع المدنيين.. وهكذا.. أكاذيبٌ لستر أكاذيب، ومزيدٌ من الأكاذيب المفضوحة.
يأتي هذا بعد انكشافٍ أخلاقيٍّ أشدّ خطورةً لدى البيئة الحاضنة لحزب الله، حين قام بعض هذه البيئة باستقبال المهجّرين من الزبداني، وفق اتفاق المبادلة مع الفوعة – كفريا، برفع الأحذية.
بعد مضايا بتنا نقرأ بكثرةٍ على صفحات الفيسبوك كلاماً من نوع: "لماذا تستغربون؟ فهذا من شيم هذه الطائفة".
ما فعله حزب الله في سوريا، طوال السنوات الثلاث من تدخله، يؤسّس لشرخٍ طائفيٍّ قد لا تكفي أجيالٌ لإعادة ترميمه. هذا على فرض وجود إرادةٍ لدى الأطراف للعمل على هذا الترميم.