تفاءل كثيرٌ من السوريين عندما ارتفعت وتيرة الدعوات الحازمة، والاستعدادات العسكرية، لمعاقبة النظام السوري، إثر استخدامه السلاح الكيماوي في غوطتي دمشق. وبعيداً عن وطنيّةٍ تهتم بالشعار أكثر مما تعنى بالإنسان وحياته وأمنه واستقراره، تلطّى وراءها المؤيّدون و«خلاياهم النائمة»؛ يبدو هذا التفاؤل مفهوماً تماماً، بعد كلّ ما شهدناه من قتلٍ واعتقالٍ وانتهاكاتٍ همجيّةٍ ودمارٍ معمّم.
غير أن الأمور سارت على غير ما تشتهي سفن هذه الثورة، قليلة الحظّ بالفعل. ودخلت الضـــــــــــــــربة العسكريّة الموعودة في بيروقراطيّاتٍ بدت باردةً بين بعض الرؤســـــــــــــــاء الغربييـــن وبرلمانات بلادهم، فضلاً عن البطء الذي صار معتاداً في إجـــــــراءات الأمم المتحدة، حتى أتت «مبادرة» روسيا لتمدّ للنظام حبل الإنقاذ. ويقع المتفائلون في إحباطٍ ويأسٍ قانط.
وبعيداً عن متابعة ملف الضربة، التي ما زالت على الطاولة رغم التعقيدات التي قد تفضي إلى تأخيرها أو احتمال إجهاضها؛ فإن لما جرى خلال الشهر الأخير فوائد كثيرةً يجدر أن لا تضيع بين التفاؤل والتشاؤم.
فمن جهةٍ أولى، رفعت المداولاتُ والتجاذباتُ، التي حصلت، المسألة السوريّة إلى مرتبة القضيّة الخارجيّة الأولى لعددٍ من أهم دول العالم، بما يرافق ذلك من اهتمامٍ إعلاميٍ، في مقالات الصحف الكبرى وبرامج القنوات الفضائيّة الشهيرة... إلخ. مع ما يعنيه ذلك بالطبع من تسليط أضواءٍ أشدّ وأكثر جماهيرية على جرائم الأسد خلال الثورة، وجرائمه أبيه قبلها. مما يسهم إلى حدٍ كبيرٍ في تشكيل رأيٍ عامٍ عالميٍ يميل إلى مساعدة السوريين على نيل حريتهم، بعد أن كانت قضيّةَ نزاعٍ بعيدٍ غامضٍ في دولةٍ مجهولةٍ أو تكاد، يُعنى به صحافيون متخصّصون بالشرق الأوسط، ومدراءٌ متوسطو الأهميّة في وزارات الخارجيّة، وأفرادٌ متناثرون مهتمّون بسوريا وجوارها لأسبابٍ متنوّعة.
ولهذه الشعبيّة والجماهيرية نتائج عمليّة، بدءاً بالمساعدات الإنسانيّة في قضايا اللجوء والتعليم، إلى الإغاثيّة والطبيّة، وصولاً إلى البرامج الاقتصادية ومحاولات إعادة الإعمار على المدى المتوسّط أو الطويل، وانتهاءً بالمساعدات العسكريّة التي تبدو معالمها ونتائجها هنا وهناك.
ومن جهةٍ أخرى، يبدو ما جرى فرصةً ـ نأمل أن لا تضيع ـ لمراجعةٍ شاملةٍ لأداء المكوّنين السياسي والعسكري للثورة، اللذين كانا سبباً أساسياً في خفض التأييد المذكور أعلاه عن رتبة المشاركة السريعة والحازمة في معاقبة النظام أو حتى إزالته.
فقد كشفت اختبارات الشهر الماضي بشكلٍ جليٍ ما بات يتردد منذ زمنٍ، عن تعثر أداء الهيئات السياسية للثورة (الائتلاف حالياً) ووقوعها في جملة عيوبٍ، تبدأ بنقص الخبرة وتواضع المؤهلات، ولا تنتهي بافتقاد التماسك الأخلاقي والتوازن الشخصي والبحث عن المناصب والمكاسب، الفوريّة وفي مستقبل سوريا الجديدة ـ القديمة. مروراً بالتحزّب والشلّلية والمحاصصة وبيع الولاءات وشرائها، والمناكدة ووضع العصي في عجلات الخصم... وغير ذلك مما هو معروف.
ولكن ما جرى تجاهله والتغاضي عنه والتســــــــــــامح معه في أداء المكوّن العســــــــــكري كان أشدّ فداحة. فبدافع تفهّمنــــــــا لظروف تشكّل قوّات الثورة المســــــلّحة، أي ذلك البحر المتلاطم من الكتائب والألويـــــــة والفـــــــرق المنضوية تحت عنوانٍ غير منضبط هو «الجيش الحرّ»، وتلك التي لا تعــترف بهذا الشعار، من كتائب إسلاميّةٍ وسواها؛ تساهلنا في التعامل مع «تجاوزات» المسلّحين على الأرواح والحريّات والممتلكات... والمبررات معروفة أيضاً.
دون أن ندرك بما يكفي من الجدّيّة أن هذه الأفعال ستوقعنا تحت طائلة الحساب، السياسي إن تحايلنا بــ«فهلويّةٍ» قميئةٍ، موروثةٍ من أيام البعث الحالكة، على الحساب القانوني... الجنائي.
ولكن... ما الذي جرى؟!!! ها هي حماقاتنا على الشاشات الغربيّة! وتلك مقاطع الفيديو المعلنة أو المسرّبة، والتي نلهو فيها بجثث أعدائنا؛ موضوع برامج وتحليلات! وها هي سيوفنا وسكاكيننا تلمع تحت مجهرٍ غير متعاطف! وها جردة حسابنا الثقيلة أمامنا... ونتيجتها لدى المواطن الأمريكي أو الأوروبي معروفة، فهو لا يريد لقوّات بلاده أن تتدخل في «حربٍ أهليّة»، لا تبدو فيها الضحيّة أكثر قرباً إلى قيمه من جلادها.
فهل نلوم الغرب؟!