مات، قبل أيام، مستشار الأمن القومي الأسبق في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر، المفكر الاستراتيجي من أصل بولوني، زبغنيو بريجنسكي. وقد ارتبط اسمه، في أذهاننا، بنهاية الحرب الباردة والجهاد الإسلامي ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان.

بريجنسكي صاحب فكرة محاربة «إمبراطورية الشر»، بلغة صقور الإدارات الأميركية، عن طريق دعم المجاهدين الأفغان. وقد تبنت إدارة الجمهوري رونالد ريغان هذه السياسة وحققت نجاحاً كبيراً بمعيار ضرب الوجود العسكري السوفييتي في أفغانستان، وما شكلته هذه الهزيمة من مقدمة لانهيار الإمبراطورية السوفييتية وتفككها.

من منظورنا اليوم يمكننا إعادة قراءة ذلك «النصر» الأميركي-الأفغاني بالنظر إلى النتائج بعيدة المدى التي تداعت عن ذلك الحدث التاريخي الكبير. صحيح أنه لا بريجنسكي ولا وكالة المخابرات المركزية التي دعمت الجهاديين القادمين من مختلف البلدان قد أوجدا التيار الجهادي من العدم، ولكن يمكننا القول إنه لولا نجاح الجهاديين في دحر الاحتلال السوفييتي لما شهدنا ذلك الصعود والانتشار الكبيرين لمنظمة القاعدة وللفكرة الجهادية عموماً. ليس بالحافز القليل أن تتمكن حفنة من المقاتلين من هزيمة القوة العسكرية لإحدى الدولتين العظميين، في ذلك الوقت، حتى لو تم ذلك بدعم عسكري كبير من الدولة العظمى الثانية. نصر بهذا الحجم من شأنه أن يشجع آلاف الشبان المسلمين من مختلف أنحاء العالم على الالتحاق بالقوة الضاربة التي ستعيد إلى الإسلام أمجاده الإمبراطورية الأولى، وفقاً لخيالهم المريض. فما كان محض أحلام طوباوية تحقق في الواقع، وتحولت أفعانستان إلى «أرض محررة» يمكن الانطلاق منها لضرب «الغرب المتسلط الكافر» كما تقضي تعاليم السلفية الجهادية.

وهكذا، سرعان ما تحول الوحش الذي ربته المخابرات المركزية الأميركية، بإيحاء من بريجنسكي، لمواجهة الشيوعية العالمية، إلى «شبح يحوم فوق الغرب» على تعبير ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، فيؤرق شعوره بالأمان المتولد من القوة، ويضرب ضربته المشهدية في الحادي عشر من أيلول في نيويورك، تليها عمليات إرهابية متنقلة بين العواصم الأوروبية وبعض العواصم العربية والإسلامية.

هذه بعض تركة حرب أفغانستان، تركةٌ تضرر منها عالم المسلمين أكثر بكثير مما تضررت الولايات المتحدة وأوروبا. فردّاً على ضرب البرجين العملاقين لمبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك، قامت إدارة جورج بوش الابن باحتلال كل من أفغانستان والعراق، لتحول البلدين إلى خراب كبير يصلح أرضاً خصيبة لانتعاش السلفية الجهادية التي باتت مؤهلة لإقامة سلطتها وفقاً لنظرية «إدارة التوحش». وهو ما حصل في العراق أولاً، في أعقاب الاحتلال الأميركي، عام 2003، حين أسس الجهادي الأردني أبو مصعب الزرقاوي تنظيم «الدولة الإسلامية» فاقترف الفظاعات المصورة التي تداولها الجهاديون في أربع جهات الأرض وتقاطروا إلى العراق كذئاب شمت رائحة الدم. ثم جاءت النكبة السورية على يد الجزار بشار الأسد -راعي الإرهاب والإرهابيين- لتتحول سوريا، ومعها العراق، إلى أرض مثالية لإقامة «الدولة الإسلامية» بعدما خرج تنظيم الدولة عن هيمنة منظمة القاعدة وتصدر مشهد التوحش والفظاعات.

سئل بريجنسكي، في أعقاب صعود منظمة القاعدة وانقلابها على راعيها الأميركي، عما إذا كان يشعر بالندم على فكرته باستخدام الجهاديين الإسلاميين ضد السوفييت، فأجاب قائلاً: «ما هو الأهم من وجهة نظر التاريخ: ظهور طالبان أم نهاية الحرب الباردة؟ ظهور بضعة إسلاميين متحمسين أم تحرر أوروبا الوسطى والشرقية؟». بهذا المنطق «الإستراتيجي» كان بريجنسكي يفكر، بعيداً عن أي اهتمام بمصائر مجتمعات وملايين البشر، فهو صاحب الكتاب الشهير «رقعة الشطرنج الكبرى». فالعالم، بالنسبة له، لا يعدو كونه رقعة شطرنج يلعبها شخصان، وأحجارها دول وجماعات وبشر. مجرد قطع بلا حياة، تكسب قيمتها فقط مما يرسم لها عقل اللاعب كليّ القدرة، لا يقيد حريته شيء غير قدرة خصمه.

هؤلاء الـ«بضعة إسلاميين متحمسين» أقاموا دولتهم على أرض العراق والشام يا بريجنسكي، تحاربها دولتك منذ ثلاث سنوات بلا نتائج عسكرية باهرة على مثال حرب أفغانستان. وتحولوا إلى مشكلة عالمية، يضربون ضرباتهم الدامية حيث يشاؤون، ويحددون أولويات كل الدول، ويدفعون بلاد الديموقراطية وحقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي إلى التراجع عن كل المكتسبات الحضارية التي تحققت عبر قرون لمصلحة الأمن أولاً، ويشكلون حافزاً لصعود التيارات الأكثر انغلاقاً ورجعية في أوروبا وأميركا.

مات بريجنسكي. يرقص ترامب اليوم بالسيف في ديارنا. ثمة ما يدعو إلى القلق.