في آخر ظهوراته الإعلامية، أتحفنا بشار الكيماويّ بسلسلةٍ جديدةٍ من كلام المعتوهين الذي اشتهر به منذ ورث حكم سوريا عن أبيه. فقد ظهر، مثلاً، أن "السيادة" التي طالما شدّد عليها الناطقون باسم النظام إنما هي "نسبية" ولا ضير في التنازل عن أجزاء منها، قسراً بخروج مناطق شاسعةٍ ومعابر حدوديةٍ ومطاراتٍ وقواعد عسكريةٍ عن سيطرة قواته، وطوعاً بتسليم القرار إلى إيران وروسيا، وكرهاً بإناطة مصير سوريا، ونظامه ضمناً، بدول ما يعرف بمجموعة فيينا بقيادة واشنطن وموسكو.
في هذا الإطار جاء ردّه على سؤال الصحفيّ الألمانيّ عما إذا كان قادراً على النوم، بعدما دُمّرت ثلاثة أرباع المدن السورية، ليقول إنه لا ينام لأن عليه أن "يواصل العمل" (على تدمير الربع المتبقي، كما يمكن أن يكون خطر في بال الصحفيّ الألمانيّ بعد سماعه هذه الشناعة). بهذا المعنى يمكن القول إن الهدنة الأميركية الروسية التي فُرضت عليه قد تمنحه وقتاً للنوم، بفعل البطالة الجزئية، ما دام لا يملك، كسائر البشر الأسوياء، تلك الساعة الداخلية المنبّهة المسماة بالضمير.
غير أن هذا المسخ ليس نسيجاً وحده، وإن كان يتفوّق حتى على نفسه في المدى الذي يمكن أن يذهب إليه أيٌّ من أشباهه الكثر من أصحاب البزّات وربطات العنق ممن يتصدّرون المشهد السياسيّ في العالم. ربما يشكل المرشح الجمهوريّ المحتمل للرئاسة الأميركية دونالد ترامب أحدث نماذج الرداءة التي تحكم عالمنا اليوم. قد لا تكون المشكلة في الرجل نفسه، فهو حرٌّ في البذاءات العنصرية التي يتفوّه بها، بل في الجمهور الذي منحه تأييده ودفع به إلى صدارة السباق الرئاسيّ في الحزب الجمهوريّ. مع ذلك قد يكون لدى ناخبيه حكمةٌ نجهلها، من قبيل أنه أقلّ مرشحي الحزب الجمهوريّ رداءةً وانحطاطاً.
أما الرئيس الحاليّ باراك أوباما، فهو نموذجٌ مختلفٌ تماماً عن زملائه في نادي الانحطاط السياسيّ عبر العالم. فبخلافهم، يتمتع الرجل بثقافةٍ مرموقةٍ ويملك كاريزما شخصيةً وموهبةً خطابيةً لا جدال حولهما. أضف إلى ذلك أنه أنجز، في ولايتيه، نجاحاتٍ لا تنكر على صعيد الإدارة الداخلية لبلده. لكن وجه رداءته يظهر أكثر في السياسة الخارجية إذ بدا أسير "مدوّنة سلوكٍ" صارمةٍ وُضعت له منذ النصف الثاني لولاية سلفه الجمهوريّ جورج دبليو بوش تحت عنوان "تقرير بيكر – هاملتون" بشأن كيفية التعاطي مع إقليمنا الملتهب في مرحلة ما بعد احتلال العراق. فلم يخرج قيد أنملةٍ عن توصيات التقرير المذكور الذي ينصّ على وجوب "الانخراط" مع إيران والنظام السوريّ. إلى درجة أنه بعدما تململ قليلاً أمام هول مجزرة الكيماوي التيّ ارتكبها نظام دمشق في الغوطة، وهدّد بمعاقبته بصورةٍ محدودةٍ لا تؤدي إلى إسقاطه، سرعان ما تراجع عن هذه "الغلطة الفظيعة" واكتفى بسحب السلاح الكيماويّ من يد المجرم وكأنه يشجعه، ضمناً، على مواصلة إرهابه بكافة الأسلحة الأخرى. بيد أن الفضيحة الأكبر لأوّل رئيسٍ أسود في تاريخ الولايات المتحدة هي استسلامه الخسيس أمام روسيا في كلٍّ من أوكرانيا وسوريا، الأمر الذي سمح لقزم الكرملين أن يظهر بمظهر قائد دولةٍ عظمى ذات مصالح استراتيجيةٍ خارج المجال الحيويّ لروسيا بعدما ضاق كثيراً منذ سقوط الإمبراطورية السوفييتية، وبعدما تدهورت أحوال روسيا نفسها إلى مجرد بلدٍ نفطيٍّ متخلفٍ من العالم الثالث.
أما إذا فتحنا ملف ما يسمّى بعبد الفتاح السيسي، فمن المحتمل أنه سيتفوق في التفاهة والوضاعة حتى على سفاح سوريا المعتوه. فقد بلغ الأمر بحاكم أم الدنيا أن يعرض نفسه للبيع "من أجل مصر!" (طبعاً)، ربما ليقينه أنه لا يشكل صفقةً رابحةً حتى لو اشتراه أحدٌ بثمن بعرة.
في عصورٍ غابرةٍ كان هناك حكامٌ "عليهم القيمة" حتى لو كانوا دكتاتوريين، كجمال عبد الناصر أو الجنرال فرانكو أو ستالين أو تيتو أو حتى هتلر. أما في عصرنا فهناك أمثال طوني بلير الذي كان يرتشي من القذافي، والقزم الفرنسيّ ساركوزي، والإيطاليّ بيرلوسكوني، وبائع الجرابات نوري المالكي، وصاحب فسطاطي الخير والشر جورج بوش الابن، وغيرهم من الإمعات.
من المحتمل أن يكون هناك تفسيرٌ، أو أكثر، لصعود كلّ هذه الرداءة إلى مقدمة المشهد السياسيّ العالميّ. لا بدّ، مثلاً، أن يكون هناك ثمنٌ ما لانتقال الثروات الهائلة من أيدي بورجوازيين منتجين بنوا الحضارة الرأسمالية إلى أيدي مضاربي "الاقتصاد الافتراضيّ" في عصر العولمة، ببذخهم المجنون المناسب لمحدثي النعمة.