ليس إعلان عبادة البوط العسكريّ جديداً على بيئة الموالين. فقد ظهرت نساء، في مناسباتٍ عدّة، رفعن البوط العسكريّ المزيّن بالزهور فوق رؤوسهنّ. وتمّ نصب مجسّمٍ حجريٍّ للبوط العسكريّ، في احتفالٍ رسميٍّ العام الماضي، على مدخل مدينة اللاذقية، بديلاً عن تماثيل مؤسّس النظام الكيماويّ التي حطّمها الشعب الثائر، في السنة الأولى للثورة، في عدّة مدن. وقد شكَّل انحناء الممثل زهير عبد الكريم على الأرض وتقبيله، أمام عدسة الكاميرا، لبوط جنديٍّ في جيش البراميل والكيماوي، أقصى تجليات شعائر الدين الجديد للبيئة الموالية. وهو يعبّر عن امتنان هذه البيئة للجيش الذي دمّر البلد المؤتمن عليه، وقتل ربع مليونٍ من الشعب، وشرّد نصف السكان، دفاعاً عن النظام الذي تعتبره تلك البيئة نظامها، وترى في منتعلي البوط هؤلاء الأبطال المنقذين لها.
الجديد في ظهور كوثر البشراوي على شاشة التلفزيون وهي تعانق البوط العسكريّ وتقبله بولهٍ، هو كونها غير سوريةٍ. يمكن تعميم الدين الجديد عربياً بالنظر إلى سياق الثورة المضادّة في مصر، والتي حاولت من خلال انقلاب السيسي، ثم "انتخابه" رئيساً، أن تعيد للبوط العسكريّ اعتباراً لا يستحقه. وفي تونس كان في انتخاب أحد رموز نظام بن علي البائد، الباجي قائد السبسي، رئيساً، شيءٌ من الحنين إلى الدكتاتوريات العسكرية الأمنية، وإن كانت التوازنات السياسية الداخلية في تونس تقدّم ما يفسّر هذا الحنين.
بموازاة هذه العبادة "الشعبية" التي يشجّعها النظام وإعلامه، هناك "خطٌّ سياسيٌّ" يعبّر عن نفسه من خلال ثرثرات عددٍ من الأشخاص ممن كان لهم، يوماً ما، تاريخٌ في المعارضة، سرعان ما تخلوا عنه لمصلحة اصطفافاتهم الأهلية حين أحسّوا، في الثورة، بخطرٍ وجوديٍّ يتهدّد انتماءاتهم الأهلية تلك. ورغبةً من هؤلاء في إضفاء شيءٍ من المصداقية على خطابهم "البوطي" فهم لا يتوقفون عن نقد النظام ضمن حدود، مع فتح نيران جهنم على المعارضة، بما في ذلك تلك الموصوفة بـ"الوطنية، الداخلية، الشريفة، المعتدلة"، كهيئة التنسيق مثلاً.
جوهر "خطّهم السياسيّ" هو تمييزٌ يدعون إليه بين النظام "الفاسد" (الذي يصفه أحدهم أحياناً بـ"اللانظام") وبين الجيش المعتبر في نظرهم "مؤسسةً وطنيةً" يجب الدفاع عنها ومؤازرتها في حربها ضدّ "الهجمة التكفيرية الإرهابية" أو "الحلف الفاشيّ" أو "المؤامرة الصهيو-وهابية" حسب تعبيراتهم المتنوعة. منطلقين من حكمٍ أوليٍّ مفاده أن "الوطن في خطر". وهذا حكمٌ صحيحٌ، لكن الخلاف مع حزب البوط هو في مصدر الخطر الذي يرونه في كلّ معارضةٍ لنظام البراميل المتفجّرة والسلاح الكيماويّ، سواءً أكانت سياسيةً أم مسلحة، "خارجيةً" أم "داخلية"، تكفيريةً أم علمانية، إسلاميةً أم مدنية؛ في حين يرى كثيرٌ من معارضي النظام أن هذا الأخير، الذي دمّر البلد فوق رؤوس السكان وهجّر نصفهم، هو الخطر الأكبر على الوطن، وما مصادر الخطر الأخرى، كالمنظمات الجهادية، إلا اشتقاقاتٌ فرعيةٌ منه، وهي تزداد قوّةً باطرادٍ مع استمرار بقائه وامتلاكه لترسانة أسلحةٍ قادرةٍ على تدمير سوريا والبلدان المجاورة.
وفي الوقت الذي تأمل فيه قوى المعارضة مدداً تأخر كثيراً من خصوم النظام الإقليميين والدوليين، يشنّ حزب البوط أعنف هجوماته ضدّ السعودية وقطر وتركيا وفرنسا وغيرها من الدول الموصوفة بـ"أصدقاء الشعب السوريّ"، بصورةٍ متسقةٍ مع إعلام النظام وتصريحات أركانه.
في ندوةٍ تلفزيونيةٍ على قناة الدنيا، قبل أيامٍ، جلس عددٌ من المتكلمين لمناقشة فرص الحل السلميّ في مشاورات جنيف التي دعا إليها ديمستورا في الخامس من شهر أيار الجاري. وقد توزّع المتحاورون الأدوار بين موالٍ للنظام، وآخر مزاودٍ عليه شديد الولاء، وكاتبٍ صحفيٍّ يحاول الظهور بمظهر المراقب الموضوعيّ، وأخيراً معارض معروف أمضى في سجون النظام 18 سنةً من عمره. اللافت أن الموالي والموالي بشدّةٍ كانا غير قادرين على تحمّل أيّ "نقدٍ" خفيفٍ يوجّهه "المعارض" إلى "الحكومة" (فقد كفّ عن استخدام كلمة نظام). وفي لحظة تجلٍّ قال الموالي بشدّةٍ، موجّهاً كلماته إلى "المعارض العتيق": "نحن نعرف بعضنا جيداً، فنحن جميعاً من منطقةٍ واحدة"!
إنه حقاً أمرٌ لافتٌ أن جميع أعضاء حزب البوط من منطقةٍ واحدة، توصف في الإعلام العالميّ بـ"معقل النظام وخزّانه البشريّ"!